والمتجبرون والمسرفون يحتاجون في مقاومتهم إلى إيمان عميق ، واعتماد على الله وثيق ، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة ، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين :
{ يا قوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } .
أى : قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم ، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم : يا قوم { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله } حق الإِيمان ، وأسلمتم وجوهكم له حق الإِسلام فعليه وحده اعتمدوا ، وبجنابه وحده تمسكوا ، فإن من توكل على الله واتجه إليه ، كان الله مه بنصره وتأييده .
وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف ، ويطمئن القلوب ، ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه :
( وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) . .
فالتوكل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه . وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت . وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام . وجعل التوكل على اللّه مقتضى هذا وذاك . . مقتضى الاعتقاد في اللّه ، ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَىَ يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّسْلِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل موسى نبيه لقومه : يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وصدّقتم بربوبيته . فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوا يقول : فبه فثقوا ، ولأمره فسلّموا ، فإنه لن يخذل وليه ويسلم من توكل عليه . وإنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقول : إن كنتم مذعنين لله بالطاعة ، فعليه توكلوا .
{ وقال موسى } لما رأى تخوف المؤمنين به . { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكّلوا } فثقوا به واعتمدوا عليه . { إن كنتم مسلمين } مستسلمين لقضاء الله مخلصين له ، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين ، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له ، والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخطيط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت .
وقوله تعالى : { وقال موسى - إلى - الكافرين } ، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنساً لهم ونادباً إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات ، والذي أقول : إن التوكل الذي يأمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع ، وهو الذي في قوله صلى الله عليه وسلم «قيدها وتوكل »{[6197]} فقد جعله متوكلاً مع التقييد والنبي صلى الله عليه وسلم رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله ، وكذلك السلف كله ، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها ، كمن يدخل غاراً خفياً يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء ، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف ، وللصحيح منه قرائن تسهله ، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }{[6198]} ، ولهم قال { وعلى الله فتوكلوا }{[6199]} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مدح السبعين ألفا من أمته : { وعلى ربهم يتوكلون }{[6200]} ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهامه{[6201]} ، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء ، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة ، فكيف بمن يحتسب ، وقال لهم : { إن كنتم آمنتم } مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس و «إثارة الأنفة كما تقول ، إن كنت رجلاً فقاتل ، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة نفسه ، وقوله { إن كنتم مسلمين } ، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط ، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى .