{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا } أي : أمهلتها مدة طويلة { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي : مع ظلمهم ، فلم يكن مبادرتهم بالظلم ، موجبا لمبادرتنا بالعقوبة ، { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } بالعذاب { وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي : مع عذابها في الدنيا ، سترجع إلى الله ، فيعذبها بذنوبها ، فليحذر هؤلاء الظالمون من حلول عقاب الله ، ولا يغتروا بالإمهال .
ثم أكد - سبحانه - أن إملاءه للظالمين ، سيعقبه العذاب الأليم ، فقال : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } .
أى : وكثير من القرى الظالمة أملهت عقوبة أهلها إلى أجل مسمى ، ثم أخذتها بعد ذلك أخذا شديدا ، جعلهم فى قراهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ، وسيرجعون إلينا فيجدون عذابا أشد وأبقى ، إذ أن مصيرهم إلىَّ لا إلى غيرى .
ولقد أملى الله للكثير من تلك القرى الهالكة ؛ فلم يكن هذا الإملاء منجيا لها من المصير المحتوم والسنة المطردة في هلاك الظالمين :
( وكأي من قرية أمليت لها وهي ظالمة ، ثم أخذتها ، وإلي المصير . . )
فما بال هؤلاء المشركين يستعجلون بالعذاب ، ويهزأون بالوعيد ، بسبب إملاء الله لهم حينا من الزمان إلى أجل معلوم ? .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيّ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : وكأيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَهَا يقول : أمهلتهم وأخّرت عذابهم ، وهم بالله مشركون ولأمره مخالفون وذلك كان ظلمهم الذي وصفهم الله به جلّ ثناؤه فلم أعجَلْ بعذابهم . ثُمّ أخَذْتُها يقول : ثم أخذتها بالعذاب ، فعذّبتها في الدنيا بإحلال عقوبتنا بهم . وإليّ المَصِيرُ يقول : وإليّ مصيرهم أيضا بعد هلاكهم ، فيلقون من العذاب حينئذ ما لا انقطاع له يقول تعالى ذكره : فكذلك حال مستعجليك بالعذاب من مشركي قومك ، وإن أمليت لهم إلى آجالهم التي أجلتها لهم ، فإني آخِذُهم بالعذاب فقاتِلُهم بالسيف ثم إليّ مصيرهم بعد ذلك فموجعهم إذن عقوبة على ما قدّموا من آثامهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكأين من قرية أمليت لها} يعني: أمهلت لها، فلم أعجل عليها بالعذاب، {وهي ظالمة ثم أخذتها} بعد الإملاء بالعذاب، {وإلي} إلى الله {المصير}: يقول: إلى الله يصيرون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وكأيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَهَا" يقول: أمهلتهم وأخّرت عذابهم، وهم بالله مشركون ولأمره مخالفون وذلك كان ظلمهم الذي وصفهم الله به جلّ ثناؤه فلم أعجَلْ بعذابهم.
"ثُمّ أخَذْتُها "يقول: ثم أخذتها بالعذاب، فعذّبتها في الدنيا بإحلال عقوبتنا بهم. "وإليّ المَصِيرُ" يقول: وإليّ مصيرهم أيضا بعد هلاكهم، فيلقون من العذاب حينئذ ما لا انقطاع له. يقول تعالى ذكره: فكذلك حال مستعجليك بالعذاب من مشركي قومك، وإن أمليت لهم إلى آجالهم التي أجلتها لهم، فإني آخِذُهم بالعذاب فقاتِلُهم بالسيف، ثم إليّ مصيرهم بعد ذلك فموجعهم إذن عقوبة على ما قدّموا من آثامهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وهي ظالمة" أي مستحقة لتعجيل العقاب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإِمهال يكون من الله -سبحانه وتعالى، والإمهال يكون بأَنْ يَدَعَ الظالمَ في ظُلِمِه حيناً، ويوسِّع له الحَبْل، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي أرداه، ثم يأخذه من حيث لا يَرْتَقِب، فيعلوه نَدَمٌ، ولات حينه، وكيف يستبقي بالحيلة ما حق في التقدير عَدَمُه؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم قال: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إليّ وإلى حكمي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وكرر قوله {وكأين} لأنه جلب معنى آخر، ذكر أولاً القرى المهلكة دون إملاء بل بعقب التكذيب، ثم ثنى بالمهملة لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم.
أما قوله: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلي، وهو تفسير قوله: {وإلي المصير}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل على نصر أوليائه، وقسر أعدائه، بشهادة تلك القرى، وختم بالتعجيب من استعجالهم مع ما شاهدوا من إهلاك أمثالهم، وأعلمهم ما هو عليه من الأناة، واتساع العظمة، وكبر المقدار، عطف على {فكأين} محذراً من نكاله، بعد طويل إمهاله، قوله: {وكأين من قرية} أي من أهلها {أمليت لها} أي أمهلتها كما أمهلتكم {وهي ظالمة} كظلمكم بالاستعجال وغيره {ثم أخذتها} أي بالعذاب {وإليّ المصير} بانقطاع كل حكم دون حكمي، كما كان مني البدء، فلم يقدر أحد أن يمنع من خلق ما أردت خلقه، ولا أن يخلق ما لم أرد خلقه، فلا تغتروا بالإمهال، وإن تمادت الأيام والليالي، واحذروا عواقب الوبال، وإن بلغتم ما أردتم من الآمال، ولعله إنما طوى ذكر البدء، لأنه احتجب فيه بالأسباب فغلب فيه اسمه الباطن، ولذلك ضل في هذه الدار أكثر الخلق وقوفاً مع الأسباب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد أملى الله للكثير من تلك القرى الهالكة؛ فلم يكن هذا الإملاء منجيا لها من المصير المحتوم والسنة المطردة في هلاك الظالمين... (وكأي من قرية أمليت لها وهي ظالمة، ثم أخذتها، وإلي المصير..) فما بال هؤلاء المشركين يستعجلون بالعذاب، ويهزأون بالوعيد، بسبب إملاء الله لهم حينا من الزمان إلى أجل معلوم؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه الآية القصد منها التذكير بأنّ تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذِ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القبضَة بعد بعده عنها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآية السابقة استعجلوا العذاب وتحدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم به قريبا بعد أن ذكر لهم الله القرى التي أهلكت وهي ظالمة، وفي هذه الآية ضرب لهم الأمثال بمن أملى لهم، وأمهلهم من القرى، وأن ذلك الإمهال قد غرهم أو اغتروا به ولم يفلتوا فقال: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة}... أي وهي في حال ظلم قد أحاطوا بأعمالها من شرك وعتو، وكبر وفساد في الأرض فأمهلها سبحانه مع بقاء هذه الحال، ثم جاءها العذاب من حيث لا يتوقعون بياتا أو هم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون...
لكن طول الإمهال لا يعني الإهمال، لأن الله تعالى يملي للكافر ويمهله لأجل، فإذا جاء الأجل والعقاب أخذه...
وأخذ الشيء يتناسب مع قوة الآخذ وقدرته، وعنف الانتقام بحسب المنتقم، فإذا كان الآخذ هو الله عز وجل، فكيف سيكون أخذه؟...