{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالا ترسي الأرض ، لئلا تميد بأهلها ، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات أي : الطوال العراض ، { وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } أي : عذبا زلالا ، قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }
ثم انتقل - سبحانه - إلى الاستدلال على إمكانية البعث بطريق ثالث فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً . أَحْيَآءً وَأَمْواتاً . وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } .
والكِفات : اسم للمكان الذى يكفت فيه الشئ . أى ؛ يجمع ويضم ويوضع فيه .
يقال : كفت فلان الشئ يكفِتُه كَفْتاً ، من باب ضرب - إذا جمعه ووضعه بداخل شئ معين ، ومنه سمى الوعاء كفاتا ، لأن الشئ يوضع بداخله ، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لقوله { نجعل } لأن الجعل هنا بمعنى التصيير . وقوله : { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } منصوبان على أنهما مفعولان به ، لقوله { كِفَاتاً } أو مفعولان لفعل محذوف .
أى : لقد جعلنا الأرض وعاء ومكانا تجتمع فيه الخلائق : الأحياء منهم يعيشون فوقها ، والأموات منهم يدفنون فى باطنها ، { وَجَعَلْنَا فِيهَا } - أيضا - جبالا { رَوَاسِيَ } أى ثوابت { شَامِخَاتٍ } أى : مرتفعات ارتفاعا كبيرا ، جمع شامخ وهو الشديد الارتفاع .
قال صاحب الكشاف : الكفات : من كفت الشئ إذا ضمه وجمعه . . وبه انتصب { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتا ، أو انتصبا بفعل مضمر يدل عليه ، وهو تكفت .
والمعنى : تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتا فى بطنها .
فإن قلت : لم قيل أحياء وأمواتا على التنكير ، وهى كفات الأحياء والأموات جميعا ؟ قلت : هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون ، وأمواتاً لا يحصرون . .
وقوله - سبحانه - { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } بيان لنعمة أخرى من أجل نعمه على خلقه ، أى : وأسقيناكم - بفضلنا ورحمتنا - ماء { فُرَاتاً } أى : عذبا سائغا للشاربين .
وقوله : وَجَعَلْنا فِيها رَوَاسِيَ شامِخاتٍ يقول تعالى ذكره : وجعلنا في الأرض جبالاً ثابتات فيها ، باذخات شاهقات ، كما :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا فِيها رَوَاسِيَ شامِخاتٍ يعني الجبال .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : رَوَاسِيَ شامِخاتٍ يقول : جبالاً مشرفات .
وقوله : وأسْقَيْناكُمْ ماءً فُرَاتا يقول : وأسقيناكم ماء عذبا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وأسْقَيْناكُمْ ماءً فُرَاتا يقول : عذبا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ماءً فُرَاتا قال : عذبا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأسْقَيْناكُمْ ماءً فُرَاتا : أي ماء عذبا .
حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : وأسْقَيْناكُمْ ماءً فُرَاتا قال : من أربعة أنهار : سيحانَ ، وجيحان ، والنيل ، والفراتِ ، وكل ماء يشربه ابن آدم ، فهو من هذه الأنهار ، وهي تخرج من تحت صخرة من عند بيت المقدس . وأما سيحان فهو بِبَلْخ ، وأما جيحان فدجلة ، وأما الفرات ففرات الكوفة ، وأما النيل فهو بمصر .
و «الرواسي » : الجبال : لأنه رست أي ثبتت ، و «الشامخ » : المرتفع ، ومنه شمخ بأنفه أي ارتفع واستعلى شبه المعنى بالشخص ، و «أسقى » معناه : جعله سقياً للغلات والمنافع ، وسقى معناه للشفة خاصة ، هذا قول جماعة من أهل اللغة وقال آخرون هما بمعنى واحد ، و «الفرات » : الصافي العذب ، ولا يقال للملح فرات وهي لفظة تجمع ماء المطر ومياه الأنهار وخص النهر المشهور بهذا تشريفاً له وهو نهر الكوفة ، وسيحان هو نهر بلخ{[11549]} ، وجيحان{[11550]} هو دجلة ، والنيل نهر مصر ، وحكي عن عكرمة أن كل ماء في الأرض فهو من هذه ، وفي هذا بعد والله أعلم .
والرواسي : جمع راس ، أي جبالاً رواسي ، أي ثوابت فى الأرض قال السموأل :
رسا أصله تحت الثرى وسَمَا به *** إلى النجم فرع لا يُنَال طويل
وجمع على فواعل لوقوعه صفة لمذكر غير عاقِل وهذا امتنان بخلق الجبال لأنهم كانوا يأوُون إليها وينتفعون بما فيها من كَلأ وشجر قال تعالى : { والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم } [ النازعات : 32 ، 33 ] .
وعُطف { وأسقيناكم ماء فراتاً } لمناسبة ذكر الجبال لأنها تنحدر منها المياه تجري في أسافلها وهي الأدوية وتقر في قرارات وحياض وبُحيرات .
والفُرات : العذب وهو ماء المطر .
وتنوين { شامخات } و { ماءً فراتاً } للتعظيم لِدلالة ذلك على عظيم القدرة .