والاستثناء فى قوله - تعالى - : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } استثناء منقطع . أى : هذا هو حال الكافرين ، لكن الذين آمنوا إيمانا حقا ، وقدموا فى دنياهم الأعمال الصالحة ، فلهم فى الآخرة أجر غير مقطوع ، فقوله { ممنون } مِنْ مَنَّ : إذا قطع يقال : مننت الحبل إذا قطعته ، أو لهم أجر خالص من شوائب الامتنان ، وهو أن يعطى الإِنسان غيره عطاء ، ثم يتباهى عليه به .
قوله : فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ : يقول جلّ ثناؤه : فبشر يا محمد هؤلاء المكذّبين بآيات الله ، بعذاب أليم لهم عند الله موجع إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : إلاّ الذين تابوا منهم وصدّقوا ، وأقرّوا بتوحيده ، ونبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالبعث بعد الممات . وعملوا الصالحات يقول : وأدّوا فرائض الله ، واجتنبوا ركوب ما حرّم الله عليهم ركوبه .
وقوله : لَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ يقول تعالى ذكره : لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثواب غير محسوب ولا منقوص . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : لَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٌ يقول : غير منقوص .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونِ يعني : غير محسوب .
ثم استثنى تعالى من كفار قريش القوم الذين كان سبق لهم الإيمان في قضائه ، و { ممنون } معناه : مقطوع من قولهم : حبل منين أي مقطوع ، ومنه قول الحارث بن حلّزة اليشكري : [ الخفيف ]
فترى خلفهن من شدة الرجع . . . منيناً كأنني أهباء{[11716]}
يريد غباراً متقطعاً ، وقال ابن عباس : { ممنون } بمعنى : معدود عليهم محسوب منغص بالمن{[11717]} .
يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً : إمَّا على أنه استثناء من الضمير في قوله : { لتركبن طبقاً عن طبق } [ الانشقاق : 19 ] جرياً على تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد .
وإمّا على أنه استثناء من ضمير الجمع في { فبشرهم } [ الانشقاق : 24 ] والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } [ البقرة : 160 ] وقوله في سورة البروج ( 10 ) : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا الآية وفعل آمنوا } على هذا الوجه مراد به المستقبل ، وعبّر عنه بالماضي للتنبيه على معنى : مَن تحقق إيمانهم ، وما بينهما من قوله : { فما لهم لا يؤمنون } [ الانشقاق : 20 ] إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خصّ به الأَهمَّ ممن شملهم عموم { لتركبن طبقاً عن طبق } [ الانشقاق : 19 ] .
وقيل : هو استثناء منقطع من ضمير { فبشرهم } فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم . فحرف { إلاّ } بمنزلة ( لكن ) والاستدراك فيه لمجرد المضادة لا لِدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك ، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يُتوهم ثبوته أو نفيُه ، فهو تعريف تقريبي .
وجملة { لهم أجر غير ممنون } استئناف بياني كأنَّ سائلاً سأل : كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم ؟
والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبُه مع كرامة بحيث لا يعرَّض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى : { جزاء بما كانوا يعملون } [ الأحقاف : 14 ] ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببُه ، والمعنى : أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المنّ ينغّص الإِنعام قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] وقال النابغة :
عليَّ لِعَمْرو نِعمةٌ بعدَ نعمة *** لوالده ليستْ بذات عقارب
ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري : طعم الآلاءِ أحْلَى من المَنّ . وهو أمرّ من الآلاء مَعَ المَنّ .
ويجوز أن يكون { غير ممنون } بمعنى غير مقطوع يُقال : مننت الحبل ، إذا قطعته ، قال تعالى : { وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة : 32 ، 33 ] .
سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبدَ اللَّه بن عباس عن قوله : { غير ممنون } فقال : غير مقطوع ، فقال : هل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم قد عرفه أخو يَشكر ( يعني الحارث بن حلزة ) حيث يقول :