فماذا كانت نتيجتهم ؟ كانت استهزائهم برسلهم كما قال - تعالى - : { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ومضى مَثَلُ الأولين } .
والضمير فى قوله { مِنْهُم } يعود إلى القوم المسرفين ، المخاطبين بقوله - تعالى - : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً . . } وفى الآية التفات من الخطاب الى الغيبة ، لأن كان الظاهر أن يقال : فأهلكنا أشد منكم بطشا - أيها المشركون - .
وقوله : { أَشَدَّ مِنْهُم } مفعول به لأهلكنا . وأصله نعت لمحذوف . أى : فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا . والبطش : السطوة والقوة . يقال : فلان بطش فلان إذا أخذه بقوة وعنف ، ومنه قوله - تعالى - : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } والمراد " بمثل الأولين " صفتهم المتمثلة فى استئصال شأفتهم ، وقطع دابرهم .
أى : هكذا كان موقف السابقين من رسلهم ، لقد استهزءوا برسلهم فأهلكناهم ، وكانوا أشد قوة وبطشا من قومك المسرفين أيها الرسول الكريم - وقد اقتضت حكمتنا أن نسوق لقومك قصص هؤلاء السابقين وصفاتهم وما حل بهم من نكبات ، لكى يعتبروا بهم ، ولا ينهجوا نهجهم ، حتى لا يصيب قومك ما أصاب أولئك السابقين المكذبين .
ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ }
وقوله : { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أي : فأهلكنا المكذبين بالرسل ، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد . كقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [ غافر : 82 ] والآيات في ذلك كثيرة .
وقوله : { وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } قال مجاهد : سنتهم . وقال قتادة : عقوبتهم . وقال غيرهما : عبرتهم ، أي : جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله في آخر هذه السورة : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ] . وكقوله : { سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [ غافر : 85 ] وقال : { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } [ الأحزاب : 62 ] .
فجملة { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } تفريع وتسبب عن جملة { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين } .
وضمير { أشد منهم } عائد إلى قوم مسرفين الذين تقدم خطابهم فعدل عن استرسال خطابهم إلى توجيهه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم لأن الغرض الأهم من هذا الكلام هو تسلية الرّسول ووعده بالنصر . ويستتبع ذلك التعريضَ بالذين كذبوه فإنهم يبلغهم هذا الكلام كما تقدم .
ويظهر أن تغيير أسلوب الإضمار تبعاً لتغيير المواجهة بالكلام لا ينافي اعتبار الالتفات في الضمير لأن مناط الالتفات هو اتحاد مرجع الضميرين مع تأتِّي الاقتصار على طريقة الإضمار الأولى ، وهل تغيير توجيه الكلام إلا تقوية لمقتضى نقل الإضمار ، ولا تفوت النكتة التي تحصل من الالتفات وهي تجديد نشاط السامع بل تزداد قوة بازدياد مُقتضِياتها .
وكلام « الكشاف » ظاهر في أن نقل الضمير هنا التفات وعلى ذلك قرره شارحوه ، ولكن العلامة التفتزاني قال : ومِثل هذا ليس من الالتفات في شيء اهـ .
ولعله يرى أن اختلاف المواجهة بالكلام الواقع فيه الضّميران طريقة أخرى غير طريقة الالتفات ، وكلام « الكشاف » فيه احتمال ، وخصوصيات البلاغة واسعة الأطراف . والذين هم أشد بطشاً مِن كفار مكّة : هم الذين عُبر عنهم ب { الأوَّلين } ووصفوا بأنهم يستهزئون بمن يأتيهم من نَبيء . وهذا ترتيب بديع في الإيجاز لأن قوله : { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } يقتضي كلاماً مطوياً تقديره : فلا نعجز عن إهلاك هؤلاء المسرفين وهم أقل بطشاً .
وهذا في معنى قوله تعالى : { وكأيّن من قريةٍ هي أشد قوةً من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } [ محمد : 13 ] .
وانتصب { بطشاً } على التمييز لنسبة الأشدّيّة .
و { مثل الأولين } حالهم العجيبة . ومعنى { مضى } : انقرض ، أي ذهبوا عن بكرة أبيهم ، فمُضِيُّ المثَل كناية عن استئصالهم لأن مُضي الأحوال يكون بمضي أصحابها ، فهو في معنى قوله تعالى : { فقُطع دابر القوم الذين ظلموا } [ الأنعام : 45 ] . وذكر { الأولين } إظهار في مقام الإضمار لتقدم قوله : { في الأولين } . ووجه إظهاره أن يكون الإخبار عنهم صريحاً وجارياً مجرَى المثَل .