ثم صرح - سبحانه - بأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بوقوعهم فى العذاب المحرق فقال : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
أى : ذلك العذاب الشديد الذى حاق بكم - أيها اليهو- بسبب ما قدمته أيديكم من عمل سىء ، وما نطقت به أفواهكم من قول منكر ، فقد اقتضت حكمته وعدالته ألا يعذب إلا من يستحق العذاب ، وأنه - سبحانه - لا يظلم عباده مثقال ذرة . واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد . والمراد بالأيدى الأنفس ، والتعبير بالأيدى عن الأنفس من قبيل التعبير بالجزء عن الكل .
وخصت الأيدى بالذكر ، للدلالة على التمكن من الفعل وإراته ، ولأن أكثر الأفعال يكون عن طريق البطش بالأيدى ، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به والاتصال بذاته .
وقوله { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } عطف على قوله { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } فهو داخل تحت حكم باء السببية ، وسببيته للعذاب من حيث إن نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسىء .
وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى صورة المبالغة فى الظلم . . . وقيل إن صيغة " ظلام " للنسب كعطار أى : لا ينسب غليه الظلم أصلا " .
جزاء وفاقا ، لا ظلم فيه ، ولا قسوة :
( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) . .
والتعبير بالعبيد هنا ، إبراز لحقيقة وضعهم - وهم عبيد من العبيد - بالقياس إلى الله تعالى . وهو يزيد في شناعة الجرم ، وفظاعة سوء الأدب . الذي يتجلى في قول العبيد ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء . .
هؤلاء الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، والذي قتلوا الأنبياء . . هم الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد [ ص ] لأن الله عهد إليهم - بزعمهم - ألا يؤمنوا لرسول ، حتى يأتيهم بقربان يقدمونه ، فتقع المعجزة ، وتبهط نار تأكله ، على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل . وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله ! !
قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : يا محمد ، افتَقَرَ ربّك . يَسأل{[6271]} عباده القرض ؟ فأنزل الله : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية . رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بيت المدراس ، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فِنْحَاص{[6272]} وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حَبْرٌ يقال له : أشيع . فقال أبو بكر : ويحك يا فِنْحَاص{[6273]} اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله - يا أبا بكر - ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير . ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه{[6274]} ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فضرب وجه فِنْحَاص ضربًا شديدًا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصر{[6275]} ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْت ؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عَدُوَّ الله قد قال قولا عظيما ، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله مما قال ، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص{[6276]} وقال : ما قلتُ ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي بكر : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } تهديد ووعيد ؛ ولهذا قرنه بقوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : يقال{[6277]} لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا .
وقوله تعالى : { ذلك بما قدمت أيديكم } توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري النبي عليه السلام يوم نزول الآية ، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان ، فأضيف كل كسب إليها ، ثم بين تعالى : أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه ، والتقدير : وبأن الله { ليس بظلام للعبيد } وجمع «عبداً » في هذه الآية على عبيد ، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم{[3753]} .