قوله تعالى : { إن في هذا } أي في هذا القرآن { لبلاغاً } وصولاً إلى البغية ، أي من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجوه من الثواب . وقيل : بلاغاً أي كفاية . يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي كفاية ، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر ، { لقوم عابدين } أي المؤمنين الذين يعبدون الله ، وقال ابن عباس : عالمين . وقال كعب الأحبار : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان .
واسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } يعود على القرآن الكريم الذى منه هذه السورة .
والبلاغ : الشىء الذى يكفى الإنسان للوصول إلى غايته . يقال : فى هذا الشىء بلاغ أى : كفاية أو سبب لبلوغ المقصد .
أى : إن فى هذا القرآن ، وفيما ذكر فى هذه السورة من آداب وهدايات ، وعقائد وتشريعات ، لبلاغا وكفاية فى الوصول إلى الحق ، لقوم عابدين .
وخص العابدين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بتوجيهات القرآن الكريم ، إذ العابد لله - تعالى - بإخلاص ، يكون خاشع القلب ، نقى النفس ، مستعدا للتلقى والتدبر والانتفاع .
وفي النهاية يجيء إيقاع الختام في السورة مشابها لإيقاع الافتتاح !
( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين . وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . قل : إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ? فإن تولوا فقل : آذنتكم على سواء ، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون . إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون . وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين . . قال : رب احكم بالحق ، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ) . .
( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) . . إن في هذا القرآن وما يكشفه من سنن في الكون والحياة . ومن مصائر الناس في الدنيا والآخرة . ومن قواعد العمل والجزاء . . إن في هذا لبلاغا وكفاية للمستعدين لاستقبال هدى الله . ويسميهم( عابدين )لأن العابد خاشع القلب طائع متهيئ للتلقي والتدبر والانتفاع .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِي هََذَا لَبَلاَغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لبلاغا لمن عبد الله بما فيه من الفرائض التي فرضها الله ، إلى رضوانه وإدراك الطّلِبة عنده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن الجَريريّ ، عن أبي الوَرْد بن ثُمامة ، عن أبي محمد الحضرميّ ، قال : حدثنا كعب في هذا المسجد ، قال : والذي نفس كعب بيده إنّ في هَذَا لبَلاغا لقَوْمٍ عَابِدِينَ إنهم لأهل أو أصحاب الصلوات الخمس ، سماهم الله عابدين .
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن سعيد بن إياس الجريريّ ، عن أبي الوَرْد عن كعب ، في قوله : إنّ فِي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال : صوم شهر رمضان ، وصلاة الخمس ، قال : هي ملء اليدين والبحر عبادة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، عن الجريريّ ، قال : قال كعب الأحبار : إنّ فِي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ لأمة محمد .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ فِي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ يقول : عاملين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : إنّ فِي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال : يقولون في هذه السورة لبلاغا .
ويقول آخرون : في القرآن تنزيل لفرائض الصلوات الخمس ، من أداها كان بلاغا لقوم عابدين ، قال : عاملين .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ فِي هَذَا لَبَلاغا لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال : إن في هذا لمنفعة وعلما لقوم عابدين ذاك البلاغ .
جملة { إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين } تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه . فإن لم يأت بعد داوود قوم مؤمنون ورَثوا الأرض ، فلما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد بلغ البلاغُ إليهم .
فالإشارة بقوله تعالى : { إن في هذا } إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلّغ في القرآن .
والمراد بالقوم العابدين مَن شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قِيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ { قوم } المشعرِ بأن العبادة هي قِوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } في آخر [ سورة يونس : 101 ] . فكأنه يقول : فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله . والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم .
والعبادة : الوقوف عند حدود الشريعة . قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } [ آل عمران : 110 ] . وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم ، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف .
وما أشبه هذا الوعد المذكورَ هنا ونوطَه بالعبادة بالوعد الذي وُعدته هذه الأمة في القرآن : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون } [ النور : 5556 ] .