ثم ارشد الله - تعالى - نبيه نوحاً إلى ما يقوله بعد أن يستقر فى السفينة فقال - سبحانه - : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } من أهلك وأتباعك المؤمنين { عَلَى الفلك } .
أى : السفينة التى علمناك عن طريق وحينا كيفية صنعها بإحكام وإتقان { فَقُلِ } يا نوح على سبيل الشكر لنا ، والتقدير لذاتنا { الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا } بفضله وكرمه { مِنَ القوم الظالمين } الذين استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الضلالة على الهداية ، وتطاولوا على نبيهم الذى جاء لسعادتهم .
ولا يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا الأمر . فقد قضي الأمر ، وتقرر : ( إنهم مغرقون )ولكنه يمضي في تعليم نوح - عليه السلام - كيف يشكر نعمة ربه ، وكيف يحمد فضله ، وكيف يستهديه طريقه :
( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ، فقل : الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين . وقل : رب أنزلني منزلا مباركا ، وأنت خير المنزلين ) . .
فهكذا يحمد الله ، وهكذا يتوجه إليه ، وهكذا يوصف - سبحانه - بصفاته ، ويعترف له بآياته . وهكذا يتأدب في حقه العباد ، وفي طليعتهم النبيون ، ليكونوا أسوة للآخرين .
وقوله : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، كَمَا قَالَ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ . لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [ الزخرف : 12 - 14 ] . وقد امتثل نوح ، عليه السلام ، هذا ، كما قال تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] . فذَكَر اللهَ تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه ،
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله فإذَا اسْتَوَيْتَ أنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلى الفُلْكِ : فإذا اعتدلت في السفينة أنت ومعك ممن حملته معك من أهلك ، راكبا فيها عاليا فوقها فَقُلِ الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي نَجّانا مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ يعني من المشركين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإذا استويت أنت ومن معك} من المؤمنين {على الفلك} يعني: السفينة {فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين}، يعني: المشركين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله "فإذَا اسْتَوَيْتَ أنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلى الفُلْكِ": فإذا اعتدلت في السفينة أنت ومعك ممن حملته معك من أهلك، راكبا فيها عاليا فوقها "فَقُلِ الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي نَجّانا مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ "يعني من المشركين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هكذا الواجب على كل من أنجاه الله من الظلمة أن يحمد ربه على ذلك، يسأله النجاة إذا ابتلي بهم كما علم نوحا أن يقول ما ذكر، ويحمده على النجاة منهم، وكما قال موسى حين خرج من عندهم خائفا: {رب نجني من القوم الظالمين} (القصص: 21)، وكما سألت امرأة فرعون النجاة من... فرعون وقومه حين قالت: {ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم: 11).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهي عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم،كقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين}...
فإن قلت: هلا قيل: فقولوا: لقوله: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبيّ.
أما قوله: {فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين}... قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة {بسم الله مجراها ومرساها} وعند ركوب الدابة {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} وعند النزول {وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين}. قال الأنصاري: وقال لنبينا {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} وقال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان} كأنه سبحانه أمرهم أن لا يكونوا عن ذكره وعن الاستعاذة به في جميع أحوالهم غافلين...
وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق لأنه سبحانه كان عرفه أنه بذلك ينجيه ومن تبعه، فيصح أن يقول: {نجانا} من حيث جعله آمنا بهذا الفعل ووصف قومه بأنهم الظالمون لأن الكفر منهم ظلم لأنفسهم لقوله: {إن الشرك لظلم عظيم}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد امتثل نوح، عليه السلام، هذا، كما قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]. فذَكَر اللهَ تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم ذلك، لأن درء المفاسد -بالنهي عما لا يرضي- أولى من جلب المصالح، أتبعه الأمر بالشكر فقال: {فإذا استويت} أي اعتدلت {أنت ومن معك} أي من البشر وغيرهم {على الفلك} ففرغت من امتثال الأمر بالحمل {فقل} لأن علمك بالله ليس كعلم غيرك فالحمد منك أتم، وإذا قلت اتبعك من معك، فإنك قدوتهم وهم في غاية الطاعة لك، ولهذا أفرد في الجزاء بعد العموم في الشرط {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال في الإيجاد والإعدام {لله} أي الذي لا كفوء له لأنه المختص بصفات المجد {الذي نجّانا} بحملنا فيه {من القوم} الأشداء الأعتياء {الظالمين} الذين حالهم -لوضعهم الأشياء في غير مواضعها- حال من يمشي في الظلام، فلك الحمد بعد إفنائهم كما كان لك الحمد في حال إبدائهم وإبقائهم،...والحمد في هذه السورة المفتتحة بأعظم شعيرة بها الإبقاء الأول، وهي الصلاة الموصوفة بالخشوع كالحمد في سورة الإيجاد الأول: الأنعام بقوله تعالى (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام: 45].
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} من أهلك وأتباعك {عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم، وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد لله الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم،... وقال الخفاجي: إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرره أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله... وفي أمره عليه السلام بالحمد على نجاة أتباعه إشارة إلى أنه نعمة عليه أيضاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهكذا يحمد الله، وهكذا يتوجه إليه، وهكذا يوصف -سبحانه- بصفاته، ويعترف له بآياته. وهكذا يتأدب في حقه العباد، وفي طليعتهم النبيون، ليكونوا أسوة للآخرين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستواء: الاعتلاء. وتقدم عند قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} في سورة الأعراف (54). وإطلاق الاستواء على الاستقرار في داخل السفينة مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق وإلا فحقيقة الاستقرار في الفلك أنه دخول...
والتنجية من القوم الظالمين: الإنجاء من أذاهم... والظلم: يجوز أن يراد به الشرك كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ويجوز أن يراد به الاعتداء على الحق لأن الكافرين كانوا يؤذون نوحاً والمؤمنين بشتَّى الأذى باطلاً وعدواناً وإنما كان ذلك إنجاء لأنهم قد استقلوا بجماعتهم فسلموا من الاختلاط بأعدائهم. وقد ألهمه الله بالوحي أن يحمَد ربه على ما سَهَّل له من سبيل النجاة وأن يسأله نزولاً في منزل مبارك عقب ذلك الترحل، والدعاءُ بذلك يتضمن سؤال سلامة من غرق السفينة. وهذا كالمحامد التي يُعلمها الله محمداً صلى الله عليه وسلم يوم الشفاعة. فيكون في ذلك التعليم إشارة إلى أنه سيتقبَّل ذلك منه.