و قوله - سبحانه - { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا . . } بيان لتماديهم فى جحودهم وجهلهم وغرورهم .
أى : إنهم لم يكتفوا باستبعاد حصول البعث والجزاء بوم القيامة بل أضافوا إلى ذلك الإنكار الشديد لحصولهما فقالوا : ما الحياة الحقيقية التى لا حياة بعدها إلا حياتنا الدنيا التى نحياها ، ولا وجود لحياة أخرى ، كما يقول هذا النبى - فنحن نموت كما مات آباؤنا ، ونحيا كما يولد أبناؤنا . وهكذا الدنيا فيها موت لبعض الناس ، وفيها يحاة لغيرهم { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } بعد الموت على الإطلاق .
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى ؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب .
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت و نحيا ، وما نحن بمبعوثين . .
ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى ؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا . والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجارا ، أو كالأحجار !
مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني ؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى - التي سبقت في السورة - على أطوارها الأخيرة ؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون ؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون ؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا ترابا وعظاما ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب !
وقوله : إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا يقول : ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها نُموتُ ونَحْيا يقول : تموت الأحياء منا فلا تحيا ويحدث آخرون منا فيولدون أحياء . وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثينَ : يقول : قالوا : وما نحن بمبعوثين بعد الممات . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا نَمُوتُ وَنحيْا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ قال : يقول ليس آخره ولا بعث ، يكفرون بالبعث ، يقولون : إنما هي حياتنا هذه ثم نموت ولا نحيا ، يموت هؤلاء ويحيا هؤلاء ، يقولون : إنا الناس كالزرع يحصد هذا وينبت هذا : يقولون : يموت هؤلاء ويأتي آخرون . وقرأ : وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنْبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتمْ كُلّ مُمَزّقٍ إنّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وقرأ : لا تَأْتِينا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} يعني: نموت نحن ويحيا آخرون من أصلابنا، فنحن كذلك أبدا {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت مثلها في الجاثية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا" يقول: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها "نُموتُ ونَحْيا" يقول: تموت الأحياء منا فلا تحيا ويحدث آخرون منا فيولدون أحياء. "وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثينَ": يقول: قالوا: وما نحن بمبعوثين بعد الممات.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: يموت منا قوم ويحيا منا قوم.
الثالث: أنه مقدم ومؤخر معناه نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت «لا» التي نفت ما بعدها نفي الجنس {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن ويأتي قرن آخر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا} أرادوا أنه لا وجود لنا غير هذا الوجود، وإنما تموت منا طائفة فتذهب وتجيء طائفة جديدة، وهذا كفر الدهرية.
لم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا بهذا التأكيد في التبعيد كأنهم قالوا: إنا لا نبعث أصلاً، اتصل به: {إن هي} أي الحالة التي لا يمكن لنا سواها {إلا حياتنا الدنيا} أي التي هي أقرب الأشياء إلينا وهي ما نحن فيها، ثم فسروها بقولهم: {نموت ونحيا} أي يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب. أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون: إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت و نحيا، وما نحن بمبعوثين.. ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة. هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض. فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا. والشر كذلك. إنما يستكملان هذا الجزء هنالك، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى، التي لا خوف فيها ولا نصب، ولا تحول فيها ولا زوال -إلا أن يشاء الله- ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم، ويرتدون فيها أحجارا، أو كالأحجار! مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى -التي سبقت في السورة- على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون.. لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد. يموت جيل ويحيا بعده جيل. فأما الذين ماتوا، وصاروا ترابا وعظاما، فهيهات هيهات الحياة لهم، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به، وقد صاروا عظاما ورفاتا...
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين}: لقد استبعد هؤلاء أمر البعث، لأنهم لا يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا، فالأمر عندهم محصور فيها {إن هي إلا حياتنا الدنيا}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة أُخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).