وقوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله . . . } فى محل رفع على أنه بدل من ضمير { يُنصَرُونَ } . أو في محل نصب على الاستثناء منه أي : لا يستطيع صديق أن يدفع العذاب عن صديقه ، ولا قريب أن ينفع قريبه أو ينصره ، إلا من رحمه الله - تعالى - ، وذلك بأن يعفو - سبحانه - عنه ، أو يقبل شفاعة غيره فيه .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - هو { العزيز } الذي لا يغلب { الرحيم } الذى وسعت رحمته كل شيء .
لا ينصرهم أحد ، ولا يرحمهم أحد ، إلا من ينال رحمة ربه العزيز القادر الرحيم العطوف . الذي خرجوا من يده - سبحانه - ليعملوا ؛ وعادوا إلى يده - سبحانه - ليتسلموا منه الجزاء . وما بين خروجهم ورجوعهم إنما هو فرصة للعمل ومجال للابتلاء .
هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون ، وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ، وفي التقدير الواضح والقصد الناطق في كل شيء في هذا الوجود . .
وقوله : إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ اختلف أهل العربية في موضع «مَنْ » في قوله : إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ فقال بعض نحويي البصرة : إلاّ من رحم الله ، فجعله بدلاً من الاسم المضمر في ينصرون ، وإن شئت جعلته مبتدأ وأضمرت خبره ، يريد به : إلاّ من رحم الله فيغني عنه . وقال بعض نحويي الكوفة قوله : إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ قال : المؤمنون يشفع بعضهم في بعض ، فإن شئت فاجعل «مَنْ » في موضع رفع ، كأنك قلت : لا يقوم أحد إلاّ فلان ، وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع عن أوّل الكلام ، يريد : اللهمّ إلاّ من رحم الله .
وقال آخرون منهم : معناه : لا يغني مولًى عن مولًى شيئا ، إلاّ من أذن الله له أن يشفع قال : لا يكون بدلاً مما في ينصرون ، لأن إلاّ محقق ، والأوّل منفيّ ، والبدل لا يكون إلاّ بمعنى الأوّل . قال : وكذلك لا يجوز أن يكون مستأنفا ، لأنه لا يستأنف بالاستثناء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون في موضع رفع بمعنى : يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئا إلاّ من رحم الله منهم ، فإنه يغني عنه بأن يشفع له عند ربه .
وقوله : إنّهُ هُوَ العَزِيزُ الرّحِيمُ يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه : إن الله هو العزيز في انتقامه من أعدائه ، الرحيم بأوليائه ، وأهل طاعته .
والمولى في هذه الآية : يعم جميع الموالي من القرابات وموالي العتق وموالي الصداقة .
وقوله : { ولا هم ينصرون } إن كان الضمير يراد به العالم ، فيصح أن يكون من قوله : { إلا من } في موضع نصب على الاستثناء المتصل ، وإن كان الضمير يراد به الكفار فالاستثناء منقطع ، ويصح أن يكون في موضع رفع علة الابتداء والخبر تقديره : فإنه يغني بعضهم عن بعض في الشفاعة ونحوها ، أو يكون تقديره : فإن الله ينصره{[10244]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى المؤمنين، فقال: {إلا من رحم الله} من المؤمنين، فإنه يشفع لهم.
{إنه هو العزيز} في نقمته من أعدائه الذين لا شفاعة لهم.
{الرحيم} بالمؤمنين الذين استثنى في هذه الآية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ" اختلف أهل العربية في موضع «مَنْ» في قوله: "إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ "فقال بعض نحويي البصرة: إلاّ من رحم الله... يريد به: إلاّ من رحم الله فيغني عنه. وقال بعض نحويي الكوفة قوله: "إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ" قال: المؤمنون يشفع بعضهم في بعض... وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع عن أوّل الكلام يريد: اللهمّ إلاّ من رحم الله.
وقال آخرون منهم: معناه: لا يغني مولًى عن مولًى شيئا، إلاّ من أذن الله له أن يشفع...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون في موضع رفع بمعنى: يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئا إلاّ من رحم الله منهم، فإنه يغني عنه بأن يشفع له عند ربه.
"إنّهُ هُوَ العَزِيزُ الرّحِيمُ" يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه: إن الله هو العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه، وأهل طاعته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
على ذلك استثنى في هذه الآية أيضا حين قال: {إلا من رحم الله} ومنّ عليه، وهداه الإيمان، ورزقه التوحيد، فإنه يكون بعضهم لبعض شفعاء وأولياء، ينصر بعضهم بعضا، ويشفع بعضهم لبعض، والله أعلم.
{إلا من رحم الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد المؤمن فإنه تشفع له الأنبياء والملائكة.
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على أن القول بالقيامة حق، ثم أردفه بوصف ذلك اليوم ذكر عقيبه وعيد الكفار، ثم بعده وعد الأبرار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنه هو} أي وحده {العزيز} أي المنيع الذي لا يقدح في عزته عفو ولا عقاب، بل ذلك دليل على عزته فإنه يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير مبالاة بأحد.
ولما كان العزيز قد لا يرحم قال: {الرحيم} أي الذي لا تمنع عزته أن يكرم من يشاء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة الله تعالى التي تسبب إليها وسعى لها سعيها في الدنيا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا ينصرهم أحد، ولا يرحمهم أحد، إلا من ينال رحمة ربه العزيز القادر الرحيم العطوف. الذي خرجوا من يده -سبحانه- ليعملوا؛ وعادوا إلى يده -سبحانه- ليتسلموا منه الجزاء. وما بين خروجهم ورجوعهم إنما هو فرصة للعمل ومجال للابتلاء. هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون، وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، وفي التقدير الواضح والقصد الناطق في كل شيء في هذا الوجود..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستثناء بقوله: {إلا من رحم الله} وقع عقب جملتي {لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون} فحُق بأن يرجع إلى ما يَصلح للاستثناء منه في تينك الجملتين.
ولنا في الجملتين ثلاثة ألفاظ تصلح لأن يستثنى منها وهي {مولى} الأولُ المرفوع بفعل {يغني} و {مولى} الثاني المجرورُ بحرف {عن}، وضميرُ {ولا هم ينصرون}، فالاستثناء بالنسبة إلى الثلاثة استثناء متصل، أي إلا من رحمه الله من الموالي، أي فإنه يأذن أن يُشْفَع فيه، ويأذَن للشافع بأن يَشْفَعَ كما قال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذِن له} [سبإ: 23]
والشفاعة: إغناء عن المشفوع فيه. والشفعاء يومئذٍ أولياء للمؤمنين، فإن من الشفعاء الملائكَة وقد حكى الله عنهم قولهم للمؤمنين {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31].
وقيل هو استثناء منقطع؛ لأن من رحمه الله ليس داخلاً في شيء قبله مما يدل على أهل المحشر، والمعنى: لكن من رحمه الله لا يحتاج إلى من يُغني عنه أو ينصره وهذا قول الكسائي والفراء.
وأسباب رحمة الله كثيرة مرجعها إلى رضاه عن عبده وذلك سِر يعلمه الله.
وجملة {إنه هو العزيز الرحيم} استئناف بياني هو جوابٌ مجمل عن سؤال سائل عن تعيين من رحمهُ الله، أي أن الله عزيز لا يُكرهه أحد على العدول عن مراده، فهو يرحم من يَرحمه بمحض مشيئته وهو رحيم، أي واسع الرحمة لمن يشاء من عباده على وفق ما جرى به علمه وحكمته ووعدُه. وفي الحديث: « ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».