والاستفهام فى قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ . فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } للتعجيب من إصرارهم على كفرهم ، ومن إعراضهم عن الحق الذى دعاهم إليه نبيهم صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالتذكرة : التذكير بمواعظ القرآن وإرشاداته ، والحمر : جمع حمار ، والمرادبه الحمار الوحشى المعروف بشدة نفوره وهروبه إذا ما أحس بحركة المقتنص له .
وقوله : { مُّسْتَنفِرَةٌ } أى : شديدة النفور والهرب فالسين والتاء للمبالغة .
والقسورة : الأسد ، سمى بذلك لأنه يقسر غيره من السباع ويقهرها ، وقيل : القسورة اسم الجماعة الرماة الذين يطاردون الحمر الوحشية ، ولا واحد له من لفظه ، ويطلق هذا اللفظ عند العرب على كل من كان بالغ النهاية فى الضخامة والقوة . من القسر بمعنى القهر . أى : ما الذى حدث لهؤلاء الجاحدين المجرمين ، فجعلهم يصرون إصرارا تاما على الإِعراض عن مواعظ القرآن الكريم ، وعن هداياته وإرشاداته ، وأوامره ونواهيه . . حتى لكأنهم - فى شدة إعراضهم عنه ، ونفورهم منه - حمر وحشية قد نفرت بسرعة وشدة من أسد يريد أن يفترسها ، أو من جماعة من الرماة أعدوا العدة لاصطيادها ؟
قال صاحب الكشاف : شبههم - سبحانه - فى إعراضهم عن القرآن ، واستماع الذكر والموعظة ، وشرادهم عنه - بحمر جدت فى نفارها مما أفزعها .
وفى تشبيههم بالحمر : مذمة ظاهرة ، وتهجين لحالهم بين ، كما فى قوله - تعالى - : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } وشهادة عليهم بالبلة وقلة العقل ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ، واطرادها فى العدو ، إذا رابها رائب ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب ، فى وصف الإِبل ، وشدة سيرها ، بالحمر ، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص . .
والتعبير بقوله : { فَمَا لَهُمْ . . . } وما يشبهه قد كثر استعماله فى القرآن الكريم ، كما فى قوله - تعالى - : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ . . . } والمقصود منه التعجيب من إصرار المخاطبين على باطلهم ، أو على معتقد من معتقداتهم . . مع أن الشواهد والبينات تدل على خلاف ذلك .
وقال - سبحانه - { عَنِ التذكرة } بالتعميم ، ليشمل إعراضهم كل شئ يذكرهم بالحق ، ويصرفهم عن الباطل .
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة ، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف ؛ وهم يصدون عنها ويعرضون ، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها ، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب :
( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة ? ) . .
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه ، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه . . مشهد يعرفه العرب . وهو مشهد عنيف الحركة . مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون ! حين يخافون ! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر ، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم ، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين ، وذلك المصير العصيب الأليم ? !
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون ، تتملاه النفوس ، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه ، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل ، ويطامنون من الإعراض والنفار ، مخافة هذا التصوير الحي العنيف !
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ * فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُؤْتَىَ صُحُفاً مّنَشّرَةً * كَلاّ بَل لاّ يَخَافُونَ الاَخِرَةَ } .
يقول تعالى ذكره : فما لهؤلاء المشركين بالله عن التذكرِة معرِضين ، مولّين عنها تولية الحُمُر المستنفرة فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : مُسْتَنْفِرَةٌ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بكسر الفاء ، وفي قراءة بعض المكيين أيضا بمعنى نافرة .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان معروفتان ، صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وكان الفرّاء يقول : الفتح والكسر في ذلك كثيران في كلام العرب وأنشد :
أمْسِكْ حِمارَكَ إنّهُ مُسْتَنْفِرٌ *** فِي إثْرِ أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرّب
وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور { كأنهم حمر مستنفرة } إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جداً ، وقرأ الأعمش : «حمْر » بإسكان الميم ، وفي حرف ابن مسعود «حمر نافرة » ، وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : «مستنفَرة » بفتح الفاء ، وقرأ الباقون بكسرها ، واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد ، فأما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة ، وأما كسر الفاء فعلى أن نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي ، ويقوي ذلك قوله تعالى { فرت }
والحُمر : جمع حمار ، وهو الحمار الوحشي ، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس .
وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهَرب بالوحش من حُمرٍ أو بقرِ وحش إذا أحسسنَ بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد :
فتوجَّسَت رِزّ الأنيس فراعَها *** عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ والأنيسُ سَقَامها
وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإِسلام كما في معلقة طرفة ، ومعلقة لبيد ، ومعلقة الحارث ، وفي أراجيز الحجَّاج ورؤيَة ابنهِ وفي شعر ذي الرمة .
والسين والتاء في { مستنفرة } للمبالغة في الوصف مثل : استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستخرج واستنبط ، أي نافرة نفاراً قوياً فهي تعدو بأقصى سرعة العدو .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { مستنفَرة } بفتح الفاء ، أي استنفرها مستنفر ، أي أنفرها ، فهو من استنفره المتعدي بمعنى أنفره . وبناء الفعل للنائب يفيد الإِجمال ثم التفصيل بقوله : { فَرَّت من قَسْوَرة } .
وقرأها الجمهور بكسر الفاء ، أي استنفرت هي مثل : استجاب ، فيكون جملة فرّت من قسورة } بياناً لسبب نفورها .
وفي « تفسير الفخر » عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام : سألت أبا سوار الغَنَوِي وكان أعرابياً فصيحاً فقلت : كأنهم حُمُر مَاذا فقال : مستنفَرة : بفتح الفاء فقلت له : إنما هو فَرَّت من قسورة . فقال : أفرَّتْ ؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفِرة إِذَنْ فكسَرَ الفاء .