ثم وصف - سبحانه - هذه الجنة بجملة من الصفات الكريمة فقال : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } أى : لا تسمع فى هذه الجنة كلمة ذات لغو . واللغو : هو الكلام الساقط الذى لا فائدة فيه . أى : إنك - أيها المخاطب - لا تسمع فى الجنة إلا الكلام الذى تسر له نفسك ، وتقرُّ به عينك ، فلفظ اللاغية هنا : مصدر بمعنى اللغو ، مثل الكاذبة للكذب ، وهو صفة لموصوف محذوف .
( لا تسمع فيها لاغية ) . . ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم . وهذه وحدها سعادة . سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة . وضجة وصخب ، وهرج ومرج . ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية : ( لا تسمع فيها لاغية )وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر ، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي ! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو ، هي طرف من حياة الجنة ، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم .
وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء . ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس . تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها . وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة . مما لا يعرفه إلا من يذوقه !
وقوله : لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً يقول : لا تسمع هذه الوجوه ، المعنى لأهلها ، فيها في الجنة العالية لاغية . يعني باللاغية : كلمة لغو . واللّغو : الباطل ، فقيل للكلمة التي هي لغو لاغية ، كما قيل لصاحب الدرع : دارع ، ولصاحب الفرس : فارس ، ولقائل الشعر شاعر وكما قال الحُطيئة :
أغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أنّ *** كَ لابِنٌ بالصّيْفِ تامِرْ
يعني : صاحب لبن ، وصاحب تمر . وزعم بعض الكوفيين أن معنى ذلك : لا تسمع فيها حالفة على الكذب ، ولذلك قيل لاغية ولهذا الذي قاله مذهب ووجه ، لولا أن أهل التأويل من الصحابة والتابعين على خلافه ، وغير جائز لأحد خلافهم فيما كانوا عليه مجمعين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً يقول : لا تسمع أذًى ولا باطلاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قال : شتما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً : لا تسمع فيها باطلاً ، ولا شاتما .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، مثله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض قرّاء المدينة وهو أبو جعفر لا تسْمَعُ بفتح التاء ، بمعنى : لا تسمع الوجوهُ . وقرأ ذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «لا تُسْمَعُ » بضم التاء ، بمعنى ما لم يسمّ فاعله ، ويؤنّث تسمع ، لتأنيث لاغية . وقرأ ابن محيصن بالضم أيضا ، غير أنه كان يقرؤها بالياء ، على وجه التذكير .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن كلّ ذلك قراءات معروفات صحيحات المعاني ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لا يسمع بعضهم من بعض غيبة ، ولا كذبا ، ولا شتما ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: "لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً" يقول: لا تسمع هذه الوجوه - المعنى: لأهلها فيها في الجنة العالية - لاغية. يعني باللاغية: كلمة لغو، واللَّغو: الباطل، فقيل للكلمة التي هي لغو لاغية...
عن ابن عباس، قوله: "لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً" يقول: لا تسمع أذًى ولا باطلا..
عن مجاهد، قوله: "لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً" قال: شتمًا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ونزع الغل عن صدورهم ، فارتفعت دواعي السفه كلها ، فلا يسمع فيها ما يحق أن يلغى به . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و " اللغو " سقط القول ، فذلك يجمع الفحش وسائر الكلام السفساف الناقص ، وليس في الجنة نقصان ولا عيب فعل ولا قول ، والحمد لله ولي النعمة . ...
إن الجنة منزهة عن اللغو لأنها منزل جيران الله تعالى وإنما نالوها بالجد والحق لا باللغو والباطل ، وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم فإنه يكون مبرأ عن اللغو، وكل ما كان أبلغ في هذا كان أكثر جلالة ، هذا ما قرره القفال ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية ، وثُني بصفة تنزيهها عمّا يعدّ من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو ، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على { عالية } مراعاة لعدم التناسب بين المفردات والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل . وهذا وصف للجنة بحسن سكانها .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فليس هناك ثمّة : جدال ، كلام نفاق ، عداوة ، حقد ، حسد ، كذب ، تهمة ، افتراء ، غيبة ولا أيّ إيذاء ، بل ولا حتى الكلام الفارغ . فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك ؟ ! ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا ، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث ، والتي تؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي ، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معاً...