ثم لفت - سبحانه - أنظارهم إلى ما يعلمونه من حالهم فقال : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } .
أى : والله لقد علمتم النشأة الأولى من خلقكم ، حيث أوجدناكم من نطفة فعلقة فمضغة . . فهلا تذكرتم ذلك وعقلتموه ، وعرفتم أن من قدر على خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا . . . قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى ؟
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة إقامة الأدلة الساطعة ، على إمكانية البعث وعلى أن من قدر على خلق الإنسان مع العدم قادر على إعادته .
قال القرطبى : وفى الخبر : عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى . وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة ، وهو لا يسعى لدار القرار .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشْأَةَ الاُولَىَ فَلَوْلاَ تَذَكّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد علمتم أيها الناس الإحداثة الأولى التي أحدثناكموها ، ولم تكونوا من قبل ذلك شيئا . وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : النّشأَةَ الأُولى قال : إذ لم تكونوا شيئا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشأَةَ الأُولى يعني خلق آدم لستَ سائلاً أحدا من الخلق إلا أنبأك أن الله خلق آدم من طين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشأَةَ الأُولى قال : هو خلق آدم .
حدثني محمد بن موسى الحرسي ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، قال : سمعت أبا عمران الجوني يقرأ هذه الاَية وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشأَةَ الأُولى قال : هو خلق آدم .
وقوله : فَلَوْلا تَذَكّرُونَ يقول تعالى ذكره : فهلا تذكرون أيها الناس ، فتعلموا أن الذي أنشأكم النشأة الأولى ، ولم تكونوا شيئا ، لا يتعذّر عليه أن يعيدكم من بعد مماتكم وفنائكم أحياء .
وقرأ جمهور الناس : النشْأة «بسكون الشين . وقرأ قتادة وأبو الأشهب{[10917]} وأبو عمرو بخلاف [ النشَأة ] بفتح الشين والمد . وقال أكثر المفسرين : أشار إلى خلق آدم ووقف عليه ، لأنه لا تجد أحداً ينكر أنه من ولد آدم وأنه من طين . وقال بعضهم : أراد ب { النشأة الأولى } نشأة إنسان إنسان في طفولته فيعلم المرء نشأته كيف كانت بما يرى من نشأة غيره ، ثم حضض على التذكر والنظر المؤدي إلى الإيمان .
وقرأ الجمهور : » تذّكرون «مشددة الذال . وقرأ طلحة : » تذْكُرون «بسكون الذال وضم الكاف ، وهذه الآية نص في استعمال القياس والحض عليه .
أعقب دليل إمكان البعث المستند للتنبيه على صلاحية القدرة الإِلهية لذلك ولسد منافذ الشبهة بدليل من قياس التمثيل ، وهو تشبيه النشأة الثانية بالنشأة الأولى المعلومة عندهم بالضرورة ، فنبهوا ليقيسوا عليها النشأة الثانية في أنها إنشاء من أثر قدرة الله وعلمه ، وفي أنهم لا يحيطون علماً بدقائق حصولها .
فالعلم المنفي في قوله : { فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] ، هو العلم التفصيلي ، والعلم المثبت في قوله : { ولقد علمتم النشأة الأولى } هو العلم الإجمالي ، والإجمالي كاففٍ في الدلالة على التفصيلي إذ لا أثر للتفصيل في الاعتقاد .
وفي المقابلة بين قوله : { في ما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] بقوله : { ولقد علمتم } محسّن الطباق .
ولما كان علمهم بالنشأة الأولى كافياً لهم في إبطال إحالتهم النشأة الثانية رتب عليه من التوبيخ ما لم يرتب مثله على قوله : { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } [ الواقعة : 60 ، 61 ] فقال : { فلولا تذكرون } ، أي هلا تذكرتم بذلك فأمسكتم عن الجحد ، وهذا تجهيل لهم في تركهم قياس الأشباه على أشباهها ، ومثله قوله آنفاً : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } [ الواقعة : 57 ] .
وجيء بالمضارع في قوله : { تذكرون } للتنبيه على أن باب التذكر مفتوح فإن فاتهم التذكر فيما مضى فليتداركوه الآن .
وقرأ الجمهور { النشأة } بسكون الشين تليها همزة مفتوحة مصدر نشأ على وزن المرة وهي مرة للجنس . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بفتح الشين بعدها ألف تليها همزة ، وهو مصدر على وزن الفَعَالة على غير قياس ، وقد تقدم في سورة العنكبوت .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.