يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه ، وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة ، على صدقهما فيما أخبر عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره . فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه ، وأيقنوا أنه من الله ، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة ، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق ، فقالوا : { مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى } أي : مفتعل مصنوع . وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه ، فما صعد معهم ذلك .
وقوله{[22320]} : { وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ } يعنون : عبادة الله وحده لا شريك له ، يقولون : ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ، ولم نر{[22321]} الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى .
طوي ما بين نداء الله إياه وبين حضوره عند فرعون من الأحداث لعدم تعلق العبرة به . وأسند المجيء بالآيات إلى موسى عليه السلام وحده دون هارون لأنه الرسول الأصلي الذي تأتي المعجزات على يديه بخلاف قوله { فاذهبا بآياتنا } في سورة الشعراء ( 15 ) ، وقوله { بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] إذ جعل تعلق الآيات بضميريها لأن معنى الملابسة معنى متسع فالمصاحب لصاحب الآيات هو ملابس له .
والآيات البينات هي خوارق العادات التي أظهرها ، أي جاءهم بها آية بعد آية في مواقع مختلفة ، قالوا عند كل آية { ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } .
والمفترى : المكذوب . ومعنى كونها سحراً مكذوباً أنه مكذوب ادعاء أنه من عند الله وإخفاء كونه سحراً .
والإشارة في قوله { وما سمعنا بهذا } إلى ادعاء الرسالة من عند الله لأن ذلك هو الذي يسمع وأما الآيات فلا تسمع . فمرجع اسمي الإشارة مختلف ، أي ما سمعنا من يدعو آباءنا إلى مثل ما تدعو إليه فالكلام على حذف مضاف دل عليه حرف الظرفية ، أي في زمن آبائنا . وقد جعلوا انتفاء بلوغ مثل هذه الدعوة إلى آبائهم حتى تصل إليهم بواسطة آبائهم الأولين ، دليلاً على بطلانها وذلك آخر ملجأ يلجأ إليه المحجوج المغلوب حين لا يجد ما يدفع به الحق بدليل مقبول فيفزع إلى مثل هذه التلفيقات والمباهتات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما جاءهم موسى بآياتنا} اليد والعصا {بينات} يعني واضحات التي في طه والشعراء، {قالوا ما هذا} الذي جئت به يا موسى، {إلا سحر مفترى} افتريته يا موسى، أنت تقولته وهارون {و} قالوا: {ما سمعنا بهذا في ءابائنا الأولين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما جاء موسى فرعون وملأه بأدلتنا وحججنا بينات أنها حجج شاهدة بحقيقة ما جاء به موسى من عند ربه، قالوا لموسى: ما هذا الذي جئتنا به إلاّ سحرا افتريته من قِبَلك وتخرّصته كذبا وباطلاً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا الذي تدعونا إليه من عبادة من تدعونا إلى عبادته في أسلافنا وآبائنا الأوّلين الذين مضوا قبلنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات} أي جاء موسى فرعون وقومه بآياتنا أي بأعلام، أنشأناها موضحات مظهرات؛ يظهرن، ويوضحن رسالة موسى ونبوته، وقد أظهرت لهم ذلك، وعرفوا أنها آيات من الله، نزلت، أفلا ترى أن موسى قال لفرعون: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر}؟ [الإسراء: 102] لكنهم عاندوا، وكابروا، وقالوا: {ما هذا إلا سحر مفترى} هذا منهم تمويه وتلبيس على الأتْباع والسفلة، ولم تزل عاداتهم التمويه والتلبيس على أتباعهم أمر موسى.
{وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} يقولون، والله أعلم: إن آباءنا قد عبدوا الأصنام على ما نعبد نحن، وقد ماتوا على ذلك من غير أن نزل بهم ما تتوعدنا من الهلاك والعذاب. فعلى ذلك نحن على دين آبائنا، وعلى ما هم عليه، فلا ينزل بنا شيء مما تذكر، وتوعدنا به من العذاب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما قالوا "ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين "مع شهرة قصة قوم نوح وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته لأحد أمرين:
أحدهما: للفترة التي دخلت بين الوقتين وطول الزمان جحدوا أن تقوم به حجته. والآخر: إن آباءهم ما صدقوا بشيء من ذلك، ولا دانوا به، ووجه الشبهة في أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم الأولين أنهم الكثير الذين لو كان حقا لأدركوه، لأنه لا يجوز أن يدرك الحق الأنقص في العقل والرأي، ولا يدركه الأفضل منهما، وهذا غلط، لأن ما طريقه الاستدلال قد يصيبه من سلك طريقه ولا يصيبه من لم يسلك طريقه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سِحْرٌ مُّفْتَرًى} سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{بآياتنا}: هي العصا واليد. {بينات}: أي واضحات الدلالة على صدقه، وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته، فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى أنه سحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعود إلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز. ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى، وكذبهم في ذلك، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم، أي في زمان آبائهم وأيامهم. وفي آبائنا: حال، أي بهذا، أي بمثل هذا كائناً في أيام آبائنا. وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق، ثبت أن ما ادّعاه موسى هو بدع لم يسبق إلى مثله، فدل على أنه مفترى على الله، وقد كذبوا في ذلك، وطرق سمعهم أخبار الرسل السابقين موسى في الزمان. ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ} يعنون: عبادة الله وحده لا شريك له، يقولون: ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمر الله، وعاضده أخوه كما أخبر الله، ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهرا ما أمرا به من الآيات، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله: {فلما جاءهم} أي فرعون وقومه.
ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال: {موسى بآياتنا} أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها {بينات} أي في غاية الوضوح {قالوا} أي فرعون وجنوده {ما هذا} أي الذي أظهره من الآيات {إلا سحر مفترى} أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله {وما سمعنا بهذا} أي الذي تقوله من الرسالة عن الله {في آبائنا} وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله: {الأولين} وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام "وما بالعهد من قدم "فقد قال لهم الذي آمن {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} [غافر: 34] -إلى قوله: {ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات} [غافر:34].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين).. فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه. المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب. إنهم يدعون أنه سحر، ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم، لم يسمعوا به في آبائهم الأولين! وهم لا يناقشون بحجة، ولا يدلون ببرهان، إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولا يبطل باطلا ولا يدفع دعوى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإشارة في قوله {وما سمعنا بهذا} إلى ادعاء الرسالة من عند الله لأن ذلك هو الذي يسمع وأما الآيات فلا تسمع. فمرجع اسمي الإشارة مختلف، أي ما سمعنا من يدعو آباءنا إلى مثل ما تدعو إليه فالكلام على حذف مضاف دل عليه حرف الظرفية، أي في زمن آبائنا. وقد جعلوا انتفاء بلوغ مثل هذه الدعوة إلى آبائهم حتى تصل إليهم بواسطة آبائهم الأولين، دليلاً على بطلانها وذلك آخر ملجأ يلجأ إليه المحجوج المغلوب حين لا يجد ما يدفع به الحق بدليل مقبول فيفزع إلى مثل هذه التلفيقات والمباهتات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا كانت كلمة السحر هي الكلمة المثيرة التي أرادوا أن يسقطوا بها حجة موسى (ع)، ليمنحوه صفة الساحر لا صفة النبي، وليعطوا الآية الرسالية معنى السحر لا معنى المعجزة. وبذلك اعتبروه ساحراً يفتري الكذب، عندما ينسبه إلى الله، ويدَّعي من خلاله الرسالة التي تثير أفكاراً جديدة لا عهد لهم بها، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الأولِينَ} ما يدل على أنها من مختلقاته، لا من الحقائق الإنسانية العامة، لأنها لو كانت كذلك، لعرفها آباؤنا، ولنقلوها إلينا.