يقول تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى } أي : استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال قال : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } قال مجاهد : أي من يَتبعني إلى الله ؟ وقال سفيان الثوري وغيره : من أنصاري مع الله ؟ وقول{[5059]} مجاهد أقربُ .
والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج ، قبل أن يهاجر : " مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى [ أن ]{[5060]} أبلغ كلامَ رَبِّي ، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي " {[5061]} حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه ، وهاجر إليهم فآسوه{[5062]} ومنعوه من الأسود والأحمر . وهكذا{[5063]} عيسى ابن مريم ، انْتدَبَ له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه . ولهذا قال تعالى مخبرًا عنهم : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } الحواريون ، قيل : كانوا قَصّارين وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وقيل : صيادين . والصحيح أن الحواري الناصر ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نَدبَ الناس يوم الأحزاب ، فانتدب الزبير ، ثم ندبهم فانتدَبَ الزبير [ ثم ندبهم فانتدب الزبير ]{[5064]} فقال : " إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريًا وَحَوَارِيي الزُّبَيْرُ " {[5065]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } قال مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا إسناد جيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قالوا: {ربنا آمنا بما أنزلت}: صدقنا بالإنجيل الذي أنزلت على عيسى. {واتبعنا الرسول}: عيسى على دينه. {فاكتبنا مع الشاهدين}: فاجعلنا مع الصادقين، هذا قول الحواريين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من الله عزّ وجلّ عن الحواريين أنهم قالوا: {ربنا آمَنّا}: أي صدّقنا، {بِما أنزَلْت}: بما أنزلت على نبيك عيسى من كتابك. {وَاتّبَعْنا الرّسُولَ}: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به وأعوانه، على الحقّ الذي أرسلته به إلى عبادك. {فاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ}: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحقّ، وأقرّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحلنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك، يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته، ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها، ويحتجّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران بأنه قيل من رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قيلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بما أنزلت} من الكتب التي أنزلها على الرسل جميعا، فإن أرادوا {بما أنزلت} على عيسى عليه السلام فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعا،...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
مع الشاهدين من أمة محمد؛ لأنهم يشهدون للرسل بالبلاغ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم، لأنّ الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم. {مَعَ الشاهدين}: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون بالوحدانية.
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى، وقالوا: {ربنا ءامنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا: في الآية المتقدمة {آمنا بالله} ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا {بما أنزلت} وآمنوا برسول الله حيث، قالوا {واتبعنا الرسول} فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب، فقالوا {فاكتبنا مع الشاهدين} وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين، ويفضل على درجته، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143]..
القول الرابع: إن قوله {فاكتبنا مع الشاهدين} إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين: 18] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
القول الخامس: إنه تعالى قال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] فجعل أولو العلم من الشاهدين، وقرن ذكرهم بذكر نفسه، وذلك درجة عظيمة، ومرتبة عالية، فقالوا {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.
والقول السادس: أن جبريل عليه السلام لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: « أن تعبد الله كأنك تراه» وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود، لا في مقام الغيبة، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال، إلى مقام الشهود والمكاشفة، فقالوا {فاكتبنا مع الشاهدين}.
القول السابع: إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له، ذابين عنه، قالوا {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر الاتباع بعد الإيمان لأن العلم الصحيح يستلزم العمل، والعلم الذي لا أثر له في العمل يشبه أن يكون مجملا وناقصا لا يقينا وإيمانا. وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بشيء حتى إذا حاول العمل به لم يحسنه فيتبين له أنه كان مخطئا في دعوى العلم. ثم قال إن العلم بالشيء يظل مجملا مبهما في النفس حتى يعمل به صاحبه فيكون بالعمل تفصيليا فذكر الحواريين الأتباع بعد الإيمان يفيد أن إيمانهم كان في مرتبة اليقين التفصيلي الحاكم على النفس المصرف لها في العمل {فاكتبنا مع الشاهدين} ليعم المشهود له والمشهود عليهم. أو يقال الشاهدين على هذه الحالة أي حالة الرسول مع قومه،... ومن المعروف في الفقه أن الشاهدين بمنزلة الحاكم لأن الفصل بين الخصمين يكون بشهادتهما ولا تصح الشهادة إلا من العارف بالمشهود به معرفة صحيحة وقد كان الحواريون كذلك كما علم من إقرارهم بالإيمان والاتباع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة.. إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد؛ وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول.. وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول. فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير؛ ولكنة اتباع لمنهج، والاقتداء فيه بالرسول. وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة -كما رأينا- ويكرره بشتى الأساليب. ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين: (فاكتبنا مع الشاهدين).. فأي شهادة وأي شاهدين؟ إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين. شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء؛ وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.. وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رفيعا، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات. وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته، ونظام مجتمعه، وشريعة نفسه وقومه. فيقوم مجتمع من حوله، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم.. وجهاده لقيام هذا المجتمع، وتحقيق هذا المنهج؛ وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية.. هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء! ومن ثم يدع (شهيدا).. فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه.. أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين؛ وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج. ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من (الشهداء) على حق هذا الدين. وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام.. فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون. وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين! ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه. فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام؛ أو حاولها في نفسه، ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثارا للعافية، وإيثارا لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين. شهادة تصد الآخرين عنه. وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له! وويل لمن يصد الناس عن دين الله عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين، وما هو من المؤمنين!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم،وتقديم شكر المنعم، [لأن] كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل...
وقولهم: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ} كلمة {بِمَآ أَنزَلَتَ} تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى. ولذلك قلنا سابقا: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول:"تعالوا" أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء...
وقولهم: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}. إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من الإرغام قهرا أو قسرا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فاكتبنا مع الشاهدين). والشاهدون هم أُولئك الذين لهم صفة قيادة الأُمم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيّئة...