ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة ، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف . إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة - [ وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز ، وقد مر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك ] - ويخوفهم سلب هذه النعمة ، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه :
أتتركون فيما ها هنا آمنين . في جنات وعيون . وزروع ونخل طلعها هضيم . وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ? .
وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح . ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه ؛ ولا يتدبرون منشأه ومأتاه ، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذ النعيم . فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته ، ويخافوا زواله .
وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية ، وتنبه فيها الحرص والخوف : ( أتتركون في ما هاهنا آمنين ? )أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة . . وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم . . أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت ، ولا يزعجكم سلب ، ولا يفزعكم تغيير ?
أتتركون في هذا كله من جنات وعيون ، وزروع متنوعات ، ونخل جيدة الطلع ، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون ! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة ، وفي أناقة وفراهة ?
وقوله : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } قال ابن عباس ، وغير واحد : يعني : حاذقين . وفي رواية عنه : شرهين أشرين{[21829]} . وهو اختيار مجاهد وجماعة . ولا منافاة بينهما ؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا ، من غير حاجة إلى سكناها ، وكانوا حاذقين{[21830]} متقنين لنحتها ونقشها ، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم ؛ ولهذا قال : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }
وقرأ الجمهور «تنحِتون » بكسر الحاء ، وقرأ عيسى بفتحها ، وذكر أنها لغة قال أبو عمرو وهي قراءة الحسن وأبي حيوة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «فارهين » وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين » ، وقرأ مجاهد «متفرهين » على وزن متفعلين ، واللفظة مأخوذة من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته وكماله في نوعه فمعنى الآية كَيّسين متهممين قاله ابن عباس ، وقال مجاهد شرهين . وقال ابن زيد أقوياء وقال أبو عمرو بن العلاء آشرين بطرين ، وذهب عبد الله بن شداد إلى أنه بمعنى مستفرهين أي مبالغين في استحازة{[8960]} الفاره من كل ما تصنعونه وتشتهونه .
{ تنحتون } عطف على { آمنين } ، أي وناحتين ، عبر عنه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة في نحتهم بيوتاً من الجبال . وتقدم ذلك في سورة الأعراف .
و { فَرِهِين } صيغة مبالغة في قراءة الجمهور بدون ألف بعد الفاء ، مشتق من الفراهة وهي الحذق والكياسة ، أي عارفين حذقين بنحت البيوت من الجبال بحيث تصير بالنحت كأنها مبنية . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف { فارهين } بصيغة اسم الفاعل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين} يعني: حاذقين بنحتها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتا فَرِهِينَ" يقول تعالى ذكره: وتتخذون من الجبال بيوتا. فاختلفت القرّاء في قراءة قوله "فارِهِينَ "فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: فارِهِينَ بمعنى: حاذقين بنحتها. وقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: «فَرِهِينَ» بغير ألف، بمعنى: أشرين بطرين.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته؛ فقال بعضهم: معنى فارهين: حاذقين...
وقال آخرون: معنى فارهين: مستفرهين متجبرين...
وقال آخرون ممن قرأه فارهين: معنى ذلك: كَيّسين...
وقال آخرون: معنى ذلك: أقوياء... وقال آخرون في ذلك:... معجبين بصنيعكم.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأها فارِهِينَ وقراءة من قرأ «فَرِهِينَ» قراءتان معروفتان، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ فارِهِينَ: حاذقين بنحتها، متخيرين لمواضع نحتها، كيسين، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ «فَرِهِينَ»: مَرِحين أشرين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«فارهين»... واللفظة مأخوذة من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته وكماله في نوعه فمعنى الآية كَيّسين متهممين قاله ابن عباس، وقال مجاهد شرهين. وقال ابن زيد أقوياء وقال أبو عمرو بن العلاء آشرين بطرين، وذهب عبد الله بن شداد إلى أنه بمعنى مستفرهين أي مبالغين في استحازة 22 الفاره من كل ما تصنعونه وتشتهونه.
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية، وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر اللطيف من أحوالهم، أتبعه الكثيف من أفعالهم، فقال عطفاً على {أتتركون} أو مبيناً لحال الفاعل في {آمنين}: {وتنحتون} أي والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة {من الجبال بيوتاً فارهين} أي مظهرين النشاط والقوة، تعظيماً بذلك وبطراً، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك.
وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الآن الأنفاق مثلا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ ينتقدهم على بيوتهم المرفهة المُحكمة فيقول: (وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين). «الفارِهُ» مشتق من (فره على وزن فَرِح) ومعناه في الأصل السرور المقرون باللامبالاة وعبادة الهوى... كما يستعمل في المهارة عند العمل أحياناً... ومع أن المعنيين ينسجمان مع الآية، إلاّ أنّه مع ملاحظة توبيخ نبيّهم صالح إيّاهم وملامته لهم فيبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب... ومن مجموع هذه الآيات وبمقايستها مع ما تقدم من الآيات في شأن عاد، يستفاد أن عاداً قوم هود كان أكثر اهتمامهم في حب الذات والمقام والمفاخرة على سواهم... في حين أن ثمود قوم صالح كانوا أسرى بطونهم والحياة المرفهة»... ويهتمون أكبر اهتمامهم بالتنعم، إلاّ أنّ عاقبة الجماعتين كانت واحدة، لأنّهم جعلوا دعوة الأنبياء التي تحررهم من سجن عبادة الذات للوصول إلى عبادة الله، جعلوها تحت أقدامهم، فنال كلٌّ منهم عقابه الصارم الوبيل.