في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

يدل على هذا ما بعده : ( وجعلنا سراجا وهاجا ) . . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات : ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) . . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها ? قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات ! وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة( سراج )دقيق كل الدقة ومختار . .

ومن السراج الوهاج وما يكسبه من أشعة فيها ضوء وحرارة ، ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج ، ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة ، وهو الثجاج ، من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته ، والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان . وهذا التناسق في تصميم الكون ، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه ، وحكمة تقدره ، وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه ، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون ، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام !

إن لهذا الكون خالقا ، وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو : من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . وخلق الناس أزواجا . وجعل نومهم سباتا [ بعد الحركة والوعي والنشاط ] مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء ، وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج .

وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . . توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق ، ويشي بالتدبير والتقدير ، ويشعر بالخالق الحكيم القدير . ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

وقوله : وَجَنّاتٍ ألْفافا يقول : ولنخرج بذلك الغيث جنات وهي البساتين وقال : وجنات ، والمعنى : وثمر جنات ، فترك ذكر الثمر استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره . وقوله : ألْفافا يعني : ملتفة مجتمعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وجَنّاتٍ أَلْفافا قال : مجتمعة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَجَنّاتٍ ألْفافا يقول : وجنات التفّ بعضها ببعض .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : ملتفة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : التفّ بعضها إلى بعض .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : التفّ بعضها إلى بعض .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : ملتفة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَنّاتٍ ألْفافا قال : هي الملتفة ، بعضها فوق بعض .

واختلف أهل العربية في واحد الألفاف ، فكان بعض نحويّي البصرة يقول : واحدها : لَفّ . وقال بعض نحويّي الكوفة : واحدها : لَفّ ولفيف قال : وإن شئت كان الألفاف جمعا ، واحده جمع أيضا ، فتقول : جنة لفّاء ، وجنات لَفّ ، ثم يجمع اللّفّ ألفافا .

وقال آخر منهم : لم نسمع شجرة لفة ، ولكن واحدها لفاء ، وجمعها لفّ ، وجمع لفّ : ألفاف ، فهو جمع الجمع .

والصواب من القول في ذلك أن الألفاف جمع لَفّ أو لفيف ، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناه : ملتفة ، واللّفاء : هي الغليظة ، وليس الالتفاف من الغلظ في شيء ، إلاّ أن يوجه إلى أنه غلظ الالتفاف ، فيكون ذلك حينئذٍ وجها .