إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا} (16)

{ وجنات } الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جنَّه إذا سترَهُ تطلقُ على النخلِ والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه ، قالَ زُهيرٌ بنُ أبي سُلْمَى : [ البسيط ]

كأنَّ عيني في غَربي مقتلة *** منَ النَّواضحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً{[810]}

وعَلَى الأرضِ ذاتِ الشجرِ ، قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفردوسُ ما فيه الكَرْمُ والأولُ هو المرادُ . وقولُه تعالَى : { أَلْفَافاً } أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ ، قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ ، وقيلَ : الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ ، وقيلَ : هو جمعُ لف جمع لفَّاءَ ، كخضر وخضراءَ وقيلَ : جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ . واعلم أنَّ فيما ذكر من أنَّ أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ : الأولُ : باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدرَ على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالٍ يحتذيهِ ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى ، الثَّانِي : باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدةً إلى الخلق يستحيلُ أنْ يفنيَها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً ، والثالثُ : باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ يعاينونَه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ : ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً .


[810]:ورد في ديوانه (ص37)؛ ولسان العرب (سحق)، (قتل)، (جنن)؛ وتاج العروس (سحق)، (قتل)، (جنن). ومقاييس اللغة (1/421).