جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا نحن نزّلنا عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلاً، ابتلاء منا واختبارا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} قيل: فرّقنا عليك القرآن تفريقا. والحكمة في التفريق ما ذكر في آية أخرى في الفرقآن، وهو قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} [الفرقان: 32] فأخبر أن في التفريق تثبيتا، فيكون الناس له أوعى وأعرف بمواقع النوازل منه من أن ينزل جملة واحدة..
ثم جائز أن يكون التفريق لمكان أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لمكانه لأن الله تعالى ييسر على نبيه حفظه حتى كان يعي جميع ما ينزل إليه جبرائيل عليه السلام بما يقرأ عليه مرة واحدة، وقال له: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} [القيامة: 16] فضمن له الحفظ فأمن النسيان. فأما غيره فإنه يشتد عليه أن لو كلفه حفظه بدفعة واحدة، فأنزله مفرقا ليكونوا أقدر على حفظه. ولهذا كثر حفاظ القرآن في هذه الأمة [وكثر قراؤها] وكثر فقهاء هذه الأمة، لأن القرآن أنزل مفرقا على إثر النوازل، فعرفوا مواقع النواسخ، فوقفوا على معرفة ما أودع في الآيات لمعرفتهم مواقع الناسخ والمنسوخ، ولو نزل جملة واحدة اشتبه عليهم الناسخ والمنسوخ. فأنزله الله تعالى مفرقا ليكونوا يعلمون الناسخ والمنسوخ والله أعلم.
ولأنه إذا أنزل مفرقا كانوا إليه أشوق وأرغب منه إذا نزل جملة واحدة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لانّ: تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل، لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصواباً، كأنه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلاً مفرقاً منجماً إلا أنا لا غيري، وقد عرفتني حكيماً فاعلاً لكل ما أفعله بدواعي الحكمة؛ ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا...} تثبيت لمحمد عليه السلام وتقوية لنفسه على أفعال قريش وأقوالهم وحكم ربه وهو أن يبلغ ويكافح ويتحمل المشقة ويصبر على الأذى ليعذر الله إليهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد، يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب، الذين لا يدركون حقيقة الدعوة، فيساومون عليها الرسول [صلى الله عليه وسلم] لعله يكف عنها، أو عما يؤذيهم منها. وبين المساومة للنبي [صلى الله عليه وسلم] وفتنة المؤمنين به وإيذائهم، والصد عن سبيل الله، والإعراض عن الخير والجنة والنعيم.. بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا).. وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية. حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلا، وأن يتعمقوها تعمقا كاملا، وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة. لقد كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده. وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة. ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيرا. فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة. إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة، التي شهدت بها الروايات التاريخية، وحكاها القرآن في مواضع منه شتى.. كانت المكانة الاجتماعية، والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة، وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية.. هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان، في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة.. ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة، وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة، لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات؛ ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق. وهذه الأسباب -سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح، وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية، وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية- كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى، وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل. وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة، التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب؛ وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف. ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلا في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات، وملابسات نزولها على الرسول [صلى الله عليه وسلم] فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله، في أي أرض وفي أي زمان! لقد تلقى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] التكليف من ربه لينذر، وقيل له: (يا أيها المدثر. قم فأنذر).. فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة، وتثير في نفوسهم التشبت بما هم عليه -على شعورهم بوهنه وهلهلته- وتقودهم إلى العناد الشديد، ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم. ومألوف حياتهم، ولذائذهم وشهواتهم.. إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد. وأخذ هذا الدفاع العنيد صورا شتى، في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة، ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد. ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها [صلى الله عليه وسلم] بشتى التهم والأساليب. كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد. فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة [صلى الله عليه وسلم] طرقا شتى من الإغراء -إلى جانب التهديد والإيذاء- ليلتقي بهم في منتصف الطريق؛ ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم؛ ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه! كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الاختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة. وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل! والنبي [صلى الله عليه وسلم] ولو أنه رسول، حفظه الله من الفتنة، وعصمه من الناس.. إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف. والله يعلم منه هذا، فلا يدعه وحده، ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق. وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
من هنا يبتدئ ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة.
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي، ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجّة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبّات ومرغّبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث، فلمّا استوفى ذلك ثُنِي عِنانُ الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربطِ على قلبه لِدفاع أن تلحقه آثارُ الغمّ على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أُنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية، فذكَّره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم.
وفي إيراد هذا بعد طُول الكلام في أحوال الآخرة، قضاء لحق الاعتناء بأحوال الناس في الدنيا فأبتدئ بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من {يحبون العاجلة} [الإنسان: 27] ومن {اتخذ إلى ربه سبيلاً} [الإنسان: 29] فأدخلهم في رحمته.
وتأكيد الخبر ب (إنَّ) للاهتمام به.
وإيثار فعل {نزّلنا} الدال على تنزيله منجماً آياتٍ وسُوراً تنزيلاً مفرقاً إدماجٌ للإِيماء إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر ب (إن) وتأكيدُ الضمير المتصل بالضمير المنفصل، فاجتمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مُفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيصُ إلاّ تأكيداً على تأكيد... فالمعنى: ما نزَّل عليك القرآن إلاّ أنا.
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا: {لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة} [الفرقان: 32] فجعلوا تنزيله مفرقاً شبهة في أنه ليس من عند الله.
والمعنى: ما أنزله منجّماً إلاّ أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجّماً.
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين، وشدُّ عزيمته أن لا تخور.
وسمى ذلك حكماً لأن الرسالة عن الله لا خيرة للمرسَل في قبولها والاضطلاعِ بأمورها، ولأن ما يحفّ بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملِها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتمّ ما أمر الله به، كالحكم على الرسول بقبولِ ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجلٍ معين عند الله.