{ ذَلِكُمُ } الذي فعل ما فعل { اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : المنفرد بالإلهية ، والمنفرد بالربوبية ، لأن انفراده بهذه النعم ، من ربوبيته ، وإيجابها للشكر ، من ألوهيته ، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } تقرير أنه المستحق للعبادة وحده ، لا شريك له ، { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } تقرير لربوبيته .
ثم صرح بالأمر بعبادته فقال : { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : كيف تصرفون عن عبادته ، وحده لا شريك له ، بعد ما أبان لكم الدليل ، وأنار لكم السبيل ؟ "
{ ذلكم } المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية . { الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو } أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها ، وقرئ " خالق " بالنصب على الاختصاص فيكون { لا إله إلا هو } استئنافا بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة . { فأنى تؤفكون } فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره .
اتصل الكلام على دلائِل التفرد بالإِلهية من قوله : { ذلكم الله رَبُّكُم خالق كلِّ شَيءٍ } إلى قوله : { مُخْلِصين له الدِّينَ } [ غافر : 62 65 ] اتصالَ الأدلة بالمستدل عليه .
والإِشارة ب { ذلكم } إلى اسم الجلالة في قوله : { الله الَّذِي جَعَلَ لَكُم الليْلَ لِتَسْكنوا فِيه } [ غافر : 61 ] . وعدل عن الضمير إلى اسم الإِشارة لإِفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه ، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام فليست للذين أشركوا به شبهة تلبِّس عليهم ما لا يفعلُ مثلَ فعله ، أي ذلكم ربكم لا غيره وفي اسم الإِشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين التبست عليهم حقيقة إلهيته .
وقوله : { الله رَبُّكم خالق كل شَيْءٍ لا إله إلا هُو } أخبار أربعة عن اسم الإِشارة ، ابتدىء فيها بالاسم الجامع لصفات الإِلهية إجمالاً ، وأردف ب { ربكم } أي الذي دبر خلق الناس وهيّأ لهم ما به قوام حياتهم . ولما كان في معنى الربوبية من معنى الخلق ما هو خَلْق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم ، وأردف بنفي الإِلهية عن غيره فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقّي ، وكان رابعها نتيجة لها ، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته .
و { أَنَّى } اسم استفهام عن الكيفية ، وأصله استفهام عن المكان فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا ب ( أنّى ) عن الحالة ويشعر بذلك قوله تعالى : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } في سورة [ الأنعام : 101 ] .
و { تؤفكون } تُصرفون ، وتقدم في قوله تعالى : { قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون } في سورة [ براءة : 30 ] ، وبناؤه للمجهول لإِجمال بسبب إعراضهم إذ سيُبين بحاصل الجملة بعده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم دلهم على نفسه تعالى بصنعه ليوحد، فقال: {ذلكم الله} الذي جعل الليل والنهار وهو {ربكم خالق كل شيء} ثم وحد نفسه، فقال: {لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} يقول: من أين تكذبون بأنه ليس بواحد لا شريك له؟.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم عليكم هذه النعم أيها الناس، الله مالككم ومصلح أموركم، وهو خالقكم وخالق كلّ شيء.
"لا إلَهَ إلاّ هُوَ" يقول: لا معبود تصلح له العبادة غيره.
" فَأَنّى تُؤفَكُونَ" يقول: فأيّ وجه تأخذون، وإلى أين تذهبون عنه، فتعبدون سواه؟.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتاً لا شك فيه أصلاً شمول القدرة بالاختيار، قال معظماً بأداة البعد وميم الجمع: {ذلكم} أي أيها المخاطبون! -الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد.
{الله} أي الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه أحد، ولذلك قال: {ربكم} أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه.
ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها، قدم الخلق على التهليل فقال: {خالق كل شيء} أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه {لا إله إلا هو} بل كان ذلك واجباً في الحكمة؛ لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام، والعليم هو المتوحد بكمال الذات، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم.
ولما أنتجت هذه الأخبار- التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له -الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً: {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه.
{تؤفكون} أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها؛ فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة، التي الطعن فيها طعن في الإلهية، التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد المحسوسة، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعقب على هاتين الظاهرتين الكونيتين، بأن الذي خلقهما هو الذي يكون إلهاً يستحق هذا الاسم العظيم: (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون؟).. وإنه لعجيب يستحق التعجيب أن يرى الناس يد الله في كل شيء، ويعلموا أنه الخالق لكل شيء معرفة حتمية مفروضة على العقل فرضاً؛ بحكم وجود الأشياء، واستحالة ادعاء أحد أنها من خلقه، وعدم استقامة القول بأنها وجدت من غير موجد. عجيب يستحق التعجيب أن يكون هذا كله، ثم يصرف الناس عن الإيمان والإقرار.. (فأنى تؤفكون؟)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اتصل الكلام على دلائِل التفرد بالإِلهية من قوله: {ذلكم الله رَبُّكُم خالق كلِّ شَيءٍ} إلى قوله: {مُخْلِصين له الدِّينَ} [غافر: 62 _65] اتصالَ الأدلة بالمستدل عليه. والإِشارة ب {ذلكم} إلى اسم الجلالة في قوله: {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُم الليْلَ لِتَسْكنوا فِيه}. وعدل عن الضمير إلى اسم الإِشارة لإِفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام؛ فليست للذين أشركوا به شبهة تلبِّس عليهم ما لا يفعلُ مثلَ فعله، أي ذلكم ربكم لا غيره، وفي اسم الإِشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين التبست عليهم حقيقة إلهيته.
{الله رَبُّكم خالق كل شَيْءٍ لا إله إلا هُو} أخبار أربعة عن اسم الإِشارة، ابتدئ فيها بالاسم الجامع لصفات الإِلهية إجمالاً، وأردف ب {ربكم} أي الذي دبر خلق الناس وهيّأ لهم ما به قوام حياتهم.
ولما كان في معنى الربوبية من معنى الخلق ما هو خَلْق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم، وأردف بنفي الإِلهية عن غيره، فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقّي، وكان رابعها نتيجة لها، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته.
و {أَنَّى} اسم استفهام عن الكيفية، وأصله استفهام عن المكان؛ فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا ب (أنّى) عن الحالة، ويشعر بذلك قوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} في سورة [الأنعام: 101].
و {تؤفكون} تُصرفون، وبناؤه للمجهول لإِجمال بسبب إعراضهم؛ إذ سيُبين بحاصل الجملة بعده...