نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ} (62)

ولما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتاً لا شك فيه أصلاً شمول القدرة بالاختيار ، قال معظماً بأداة البعد وميم الجمع : { ذلكم } أي أيها المخاطبون ! - الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد { الله } أي الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه أحد ، ولذلك قال : { ربكم } أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه . ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها ، قدم الخلق على التهليل فقال : { خالق كل شيء } أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين ، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه { لا إله إلا هو } بل كان ذلك واجباً في الحكمة ، لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر ، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم ، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة ، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام ، والعليم هو المتوحد بكمال الذات ، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال ، والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم ، وهذا بخلاف ما مضى في آية الأنعام ، فإن السياق هناك لإنكار الشرك وإثبات الوحدانية بما دل عليها من عموم الخلق طبق ما مضى أيضاً في مطلعها .

ولما أنتجت هذه الأخبار - التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له - الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال ، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً : { فأنى } أي فكيف ومن أي وجه { تؤفكون * } أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه ، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد المحسوسة ، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس .