قال الله تعالى : { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : في الشدائد والمكاره ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : في الرخاء والعافية ، { أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي : بما يصيبهم من الضراء ، { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } بما أسلفوه في زمن الرخاء ، كما جاء في الحديث : " والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا غَمٌّ ، ولا نَصَب ولا وَصَب ، ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها ، إلا كَفَّرَ اللهُ عنه بها من خطاياه{[14514]}-{[14515]} ، وفي الصحيحين : " والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء فشكر كان{[14516]} خيرا له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد غير المؤمن " {[14517]} وهكذا قال الله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ } الآية [ المعارج : 19 - 22 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَيَقُولَنّ ذَهَبَ السّيّئَاتُ عَنّيَ إِنّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه ، ورزقناه رخاء في عيشه ، ووسعنا عليه في رزقه وذلك هي النعم التي قال الله جلّ ثناؤه : وَلَئِنْ أذَقْناهُ نَعْماءَ . وقوله : بَعْدَ ضَرّاءَ يقول : بعد ضيق من العيش كان فيه وعسرة كان يعالجها . لَيَقُولَنّ ذَهَبَ السّيّئاتُ عَنّي يقول تعالى ذكره : ليقولنّ عند ذلك : ذهب الضيق والعسرة عني ، وزالت الشدائد والمكاره . إنّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ يقول تعالى ذكره : إن الإنسان لفرح بالنعم التي يُعطاها مسرور بها فخور ، يقول : ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا وما بسط له فيها من العيش ، وينسي صروفها ونكد العوارض فيها ، ويدع طلب النعيم الذي يبقي والسرور الذي يدوم فلا يزول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ذَهَبَ السّيّئاتُ عَنّي غرّة بالله وجراءة عليه . إنّهُ لَفَرِحٌ والله لا يحبّ الفرحين ، فَخُورٌ بعد ما أعطي الله ، وهو لا يشكر الله .
ثم استثني جلّ ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين الذين صبروا وعملوا الصالحات . وإنما جاز استثناؤهم منه لأن الإنسان بمعنى الجنس ومعنى الجمع ، وهو كقوله : وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فقال تعالى ذكره : إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها لم يثنهم ذلك عن طاعة الله ، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه ، فإن نالوا فيها رخاء وسعة شكروه وأدّوا حقوقه بما أتاهم منها . يقول الله : أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يغفرها لهم ، ولا يفضحهم بها في معادهم . وأجْرٌ كَبِيرٌ يقول : ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم ثواب على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا جزيل ، وجزاء عظيم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : إلا الذين صبروا عند البلاء وعملوا الصالحات عند النعمة ، لهم مغفرة لذنوبهم ، وأجر كبير . قال : الجنة .
{ إلا الذين صبروا } على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه . { وعملوا الصالحات } شكرا لآلائه سابقها ولاحقها . { أولئك لهم مغفرة } لذنوبهم . { وأجر كبير } أقله الجنة والاستثناء من الإنسان لأن المراد به الجنس فإذا كان محلى باللام أفاد الاستغراق ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعل الاستثناء منقطعا .
وقوله تعالى : { إلا الذين صبروا } الآية هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس : ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا : إن الاستثناء منقطع ، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد ، وكذلك قاله من النحاة قوم .
واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله : وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة . و » الصبر «و » العمل الصالح «لا ينفع إلا مع هداية وإيمان ، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضاً عليها وحضاً ، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم .
احتراس باستثناء من ( الإنسان ) . والمراد بالّذين صبروا المؤمنون بالله لأنّ الصبر من مقارنات الإيمان فَكنيَ بالذين صبروا عن المؤمنين فإنّ الإيمان يَرُوضُ صاحبَه على مفارقة الهوى ونبذ معتاد الضلالة . قال تعالى : { إلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصّالحَات وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بالصّبْر } [ العصر : 3 ] .
ومنْ معاني الصبر انتظار الفرج ولذلك أوثرَ هنا وصفُ ( صبروا ) دون ( آمنوا ) لأنّ المرادَ مقابلة حالهم بحال الكفّار في قوله : { إنّه ليؤوس كفور } [ هود : 9 ] . ودل الاستثناء على أنّهم متّصفون بضد صفات المستثنى منهم . وفي هذا تحذير من الوقوع فيما يماثل صفات الكافرين على اختلاف مقادير . وقد نسجت الآية على هذا المنوال من الإجمال لتذهب نفوس السامعين من المؤمنين في طرق الحذر من صفتي اليأس وكفران النعمة ، ومن صفتي الفرح والفخر كل مذهب ممكن .
وجملة { أولئك لهم مغفرة وأجْرٌ كبير } مستأنفة ابتدائية . والإتيان باسم الإشارة عقب وصفهم بما دل عليه الاستثناء وبالصبر وعمل الصالحات تنبيهٌ على أنّهم استحقوا ما يذكر بعد اسم الإشارة لأجْل ما ذكر قبله من الأوصاف كقوله : { أولَئكَ عَلَى هُدىً منْ رَبهمْ وأولئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون } [ البقرة : 5 ] .