هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب :
( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ؟ ) . .
ولقد كان أهل الكتاب وقتها - وما يزالون حتى اليوم - يشهدون الحق واضحا في هذا الدين . سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات - وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققا أمامه - وسواء كذلك غير المطلعين ، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان . . غير أنهم يكفرون . . لا لنقص في الدليل . ولكن للهوى والمصلحة والتضليل . . والقرآن يناديهم : يا أهل الكتاب . . لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد .
ثم وقفهم تعالى موبخاً لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : قل لهم يا محمد ، لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آية القرآن ؟ وأنتم تشهدون أن أمره وصفة محمد الذي هو الآتي به في كتابكم ، قال هذا المعنى قتادة وابن جريج والسدي ، وتحتمل الآية أن يريد «بالآيات » ما ظهر على يدي محمد عليه السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجمادات وغير ذلك و { تشهدون } على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون ، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله ، فلما ظهر كفروا به حسداً ، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها ، قال مكي : وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله}: يعني القرآن. {وأنتم تشهدون} أن محمدا رسول الله، ونعته معكم في التوراة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أهْلَ الكِتابِ} من اليهود والنصارى. {لِمَ تَكْفُرُونَ}: لِمَ تَجحدون {بِآياتِ اللّهِ}: بما في كتاب الله، الذي أنزله إليكم، على ألسن أنبيائكم من آيه وأدلته. {وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أنه حقّ من عند ربكم. وإنما هذا من الله عزّ وجلّ توبيخ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في كتبهم مع شهادتهم أن ما في كتبهم حقّ، وأنه من عند الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأنتم تشهدون} يحتمل وجوها: يحتمل {وأنتم تشهدون} تلك الآيات، وتعاينونها، وتعلمون أنها آيات، لكن تكابرون، وتعاندون، ولا تؤمنون بها،... يحتمل غيرها من الآيات التي جاء بها. وقال بعضهم: {لم تكفرون} بدين الله وأنتم تعلمون بدلالة الخلقة وشهادة كتبهم أن دين الله وتوحيده الحق...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}؛ فيه ثلاثة تأويلات:... والثاني: وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها. والثالث: وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والشهادة: الخبر بالشيء عن مشاهدة، إما للخبر به، وإما لما يظهر به ظهوره بالمشاهدة. فإذا شهد بالإقرار، فهو مشاهدة المخبر به، وإذا شهد بالملك، فهو يظهر به ظهوره بالمشاهدة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تحتمل الآية أن يريد «بالآيات»: ما ظهر على يدي محمد عليه السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجمادات وغير ذلك و {تشهدون} على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله، فلما ظهر كفروا به حسداً، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها، قال مكي: وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران.
إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز. والثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم...
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم، ويظهرون غيره، ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز...
وقوله {وأنتم تشهدون} يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزا ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا...
{وأنتم تشهدون} معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلى الله عليه وسلم كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضا لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم الكلام فيهم بنفي شعورهم، بيّن تعالى في معرض التبكيت أن نفيهم عنه إنما هو لأنهم معاندون، لا يعملون بعلمهم، بل يعملون بخلافه، فقال مستأنفاً بما يدل على غاية التبكيت المؤذنة بشديد الغضب: {يا أهل الكتاب} أي الذين يدعون أنهم أهل العلم {لم تكفرون} أي كفراً تجددونه في كل وقت {بآيات الله} أي تسترون ما عندكم من العلم بسبب الآيات التي أنزلت عليكم من الملك المحيط بكل شيء عظمة وعزاً وعلماً {وأنتم تشهدون} أي تعلمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم إنه تعالى ناداهم مبينا لهم حقيقة ما هم فيه من الضلال لعلهم يلتفتون إلى أنفسهم التي شغلوا عنها بمحاولة إضلال غيره فقال: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون}. ذهب الرازي على أن هذه الآية موجهة إلى الطائفة العارفة بما في التوراة من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما قبلها موجهة إلى غير العارفين بذلك فآيات الله على هذا هي البشارات التي في التوراة ومثلها بشارات الإنجيل واللفظ عام يشمل ما في الكتابين. والكفر بها عبارة عن عدم العمل بها. والمختار عندي أن الخطاب هنا موجه إلى جميع أهل الكتاب والآيات عامة في كل ما يدل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما جاء به من القرآن وغيره. وقد كانوا يشهدون هذه الآيات معنى وحسا. وفي الاستفهام من التوبيخ لهم والنعي عليهم ما يليق بمن يكابر الوجود ويجحد المشهود.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان أهل الكتاب وقتها -وما يزالون حتى اليوم- يشهدون الحق واضحا في هذا الدين. سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات -وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققا أمامه- وسواء كذلك غير المطلعين، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان.. غير أنهم يكفرون.. لا لنقص في الدليل. ولكن للهوى والمصلحة والتضليل.. والقرآن يناديهم: يا أهل الكتاب.. لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يا اهل الكتاب لم بآيات الله وانتم تشهدون}: وجه الله سبحانه وتعالى بهذه الآية النداء إلى أهل الكتاب يدعوهم إلى الإيمان مبينا لهم في صيغة استفهام إنكاري توبيخي أن دواعي الإيمان قائمة، ودواعي الكفر غير ثابتة،ولذا يستفهم عنها،إنكارا وتوبيخا،وابتدأهم بهذا النداء الكريم،إذ قال: {يا أهل الكتاب} وفي هذا النداء إشارة إلى أن ما أعطوه كان يقتضي أن يسارعوا إلى الإيمان لا أن يكفروا،ثم وجه غليهم ذلك الاستفهام الإنكاري: {لم تكفرون بآيات الله} أي لقد كفرتم بآيات الله وبيناته الدالة على صدق الرسالة المحمدية وعندكم علم بها،وانتم تعلمون صدقها، فالآيات هنا هي آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،وهي القرآن الكريم، وما اشتمل عليه، والاستفهام لإنكار هذا الواقع الذي وقع منهم وهو الكفر مع قيام دلائله. ولقد أكد سبحانه وتعالى الاستنكار بقوله تعالى: {وأنتم تشهدون} أي وأنتم تعلمون صدق الرسول علما يقينا كعلم المشاهدة والعيان، بما أخبر به في كتابكم،أو: وأنتم تشهدون كل يوم الدلائل الصادقة التي تثبت الرسالة المحمدية.