ثم توعدهم بقوله : { ولتعلمن نبأه بعد حين } وهذا على حذف تقديره : لتعلمن صدق نبإه بعد حين في توعدكم واختلف الناس في معنى قوله : { بعد حين } إلى أي وقت أشار ، لأن الحين في اللغة يقع على القليل والكثير من الوقت ، فقال ابن زيد : أشار إلى يوم القيامة . وقال قتادة والحسن في اللغة أشار إلى الآجال التي لهم ، لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته . وقال السدي : أشار إلى يوم بدر ، لأنه يوم عرف الكفار فيه صدق وعيد القرآن لهم .
وجملة { ولتعلمن نبأهُ بعد حينٍ } عطف على جملة { إن هُوَ إلا ذِكرٌ للعالمين } باعتبار ما يشتمل عليه القصر من جانب الإِثبات ، أي وستعلمون خبر هذا القرآن بعد زمان علماً جزماً فيزول شكُّكُم فيه ، فالكلام إخبار عن المستقبل كما هو مقتضى وجود نون التوكيد .
والنبأ : الخبر ، وأصل الخبر : الصدق ، أي الموافقة للواقع ، فإذا قيل : أتاني نبأُ كذا ، فمعناه الخبر عن حاله في الواقع ، فإضافة النبأ إلى ما يضاف إليه على معنى اللام إذ معنى اللام هو أصل معاني الإِضافة ، قال تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم } [ ص : 21 ] ، أي ستعلمون صدق وصف هذا القرآن أنه الحق ، وهذا كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] . وفُسر النبأ بمعنى المفعول ، أي ما أَنبأَ به القرآن من إنذاركم بالعذاب ، فهو تهديد . وكلا الاحتمالين واقع فإن من المخاطبين من عجّل له عذاب السيف يوم بدر ، وبقيتهم رأوا ذلك رأي العين منهم مَن علموا دخول الناس في الإِسلام فماتوا بغيظهم ومنهم من شاهدوا فتح مكة وآمنوا ، أو رأوا قبائل العرب تدخل في الدين أفواجاً فعلموا نبأ صدق القرآن وما وعد به بعد حين فازدادوا إيماناً .
وحين كلِّ فريق ما مضى عليه من زمن بين هذا الخطاب وبين تحقق الصدق . والحين : الزمن من ساعة إلى أربعينَ سنة . فختم الكلام بتسجيل التبليغ وأن فائدة ما أبلغهم لهم لا للنبيء صلى الله عليه وسلم وختم بالمواعدة لوقتِ يقينهم بنبيئه ، وهذا مؤذن بانتهاء الكلام ومراعاة حسن الختام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولتعلمنّ أيها المشركون بالله من قُرَيش.
نبأه: نبأ هذا القرآن وهو خبره، يعني حقيقة ما فيه من الوعد والوعيد بعد حين. ثم اختلفوا في مدة الحِين الذي ذكره الله في هذا الموضع: ما هي، وما نهايتها؟
وقال بعضهم: كانت نهايتها إلى يوم بدر...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين المكذّبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حدّ منه لذلك الحين بحدّ، وقد علم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته، ووضوح صحته في الدنيا، ومنهم من علم حقيقة ذلك بهلاكه ببدر، وقبل ذلك، ولا حدّ عند العرب للحين، لا يُجاوَز ولا يقصر عنه؛ فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصحْ من أن يطلَق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عُلِمَ صِدْقُه بعد ما استمرت شريعتُه، فإن مثل ذلك إذا كان باطلاً لا يدوم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ما يأتيكم عند الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وفشوه، من صحة خبره، وأنه الحق والصدق، وفيه تهديد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الحين في اللغة يقع على القليل والكثير من الوقت...
المعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها، فستعلمون بعد حين أنكم كنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين، وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: أنا عالم بذلك، عطف عليه قوله جواباً لقسم: {ولتعلمن} أي أنتم أيضاً.
{نبأه} أي صدقي في جميع ما أنبأتكم به فيه وعنه من الأخبار العظيمة، وفيما أشار إليه افتتاح هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة بخليفة، وختامهم بخليفة، من أن عزتكم تصير إلى ذل وشقاقكم يصير إلى مسالمة وألفة، وكثرتكم تصير إلى قل، وأن ما أنا فيه الآن يفضي بي إلى خلافة الله في أرضه، وأن أوسط أمري يصير إلى مثل خلافة الأول في جميع جزيرة العرب التي هي أرض المسجد الأعظم الذي هو قبل المسجد الأقصى الذي هو محل خلافته، ثم يزاد أمر خلافتي في سائر البلاد ولا يزال حتى يعم الأرض بطولها والعرض، على يد نبيه عيسى عليه السلام خاتمة أكابر أتباعي وأنصاري وأشياعي، وترك الجار إعلاماً باستغراق العلم لزمان البعد فقال:
{بعد حين} أي مبهم عندكم معلوم لي في الدنيا إذا ظهر عبادي عليكم، وفي الآخرة مطلقاً، وإنما أخروا إلى هذا الحين ليبلغ في الإعذار إليهم فتنقطع حججهم وتتناهى ذنوبهم التي يستحقون الأخذ بها، ولقد والله علموا ذلك ثم ندموا من مات منهم ومن عاش قبل مضي عشرين سنة من إعلاء كلمته وإظهار رسالته وإتمام دينه، واستمر العلم لهم ولمن بعدهم بما بث فيه من العلوم، وجمع فيه من شريف الرسوم، وأظهر مما تقدم الوعد به فيه إلى هذا الزمان، وإلى أن يفنى كل فان، ثم يبعثوا إلى الجنان أو النيران.
فقد أثبتت هذه الآية من كون القرآن ذكراً ما أثبتته أول آية فيها على أتم وجه مع زيادة الوعيد، فانعطف الآخر على الأول، واتصل به أحسن اتصال وأجمل، ونظر إلى أول الزمر أعظم نظر وأكمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي نهاية الشوط وختام السورة يكلف الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يلقي إليهم بالقول الأخير:
قل: ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين..
إنها الدعوة الخالصة للنجاة، بعد كشف المصير وإعلان النذير. الدعوة الخالصة التي لا يطلب صاحبها أجراً وهو الداعية السليم الفطرة، الذي ينطق بلسانه، لا يتكلف ولا يتصنع، ولا يأمر إلا بما يوحي منطق الفطرة القريب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ستعلمون خبر هذا القرآن بعد زمان علماً جزماً فيزول شكُّكُم فيه، فالكلام إخبار عن المستقبل كما هو مقتضى وجود نون التوكيد.
وفُسر النبأ بمعنى المفعول، أي ما أَنبأَ به القرآن من إنذاركم بالعذاب، فهو تهديد؛ وكلا الاحتمالين واقع فإن من المخاطبين من عجّل له عذاب السيف يوم بدر، وبقيتهم رأوا ذلك رأي العين منهم مَن علموا دخول الناس في الإِسلام فماتوا بغيظهم ومنهم من شاهدوا فتح مكة وآمنوا، أو رأوا قبائل العرب تدخل في الدين أفواجاً فعلموا نبأ صدق القرآن وما وعد به بعد حين فازدادوا إيماناً.
وحين كلِّ فريق ما مضى عليه من زمن بين هذا الخطاب وبين تحقق الصدق. والحين: الزمن من ساعة إلى أربعينَ سنة، فختم الكلام بتسجيل التبليغ، وأن فائدة ما أبلغهم لهم لا للنبيء صلى الله عليه وسلم، وختم بالمواعدة لوقتِ يقينهم بنبيئه، وهذا مؤذن بانتهاء الكلام ومراعاة حسن الختام...
فقوله تعالى عن القرآن: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} دلَّ على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من قمة توحيد الله والإيمان به إلى فرعيات التكليف وجزئياته أمر كان في القديم، عرفه الجميع وأقرُّوا به، والقرآن فقط مُذكِّر بهذا العهد الأول.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} أي: الذين كذَّبوا القرآن سيعلمون عاقبة هذا التكذيب، وسيعلمون أنه خبر صادق، سيعلمون ذلك {بَعْدَ حِينِ} قالوا: الحين يُرَاد به ظهور الإسلام وانتصاره على الكفر، بداية من معركة بدر إلى أنْ قال القائل: عجبتُ لهذا الأُمِيِّ، كيف يفتح نصف الدنيا في نصف قرن، نعم هذه عجيبة ولا تزال حتى الآن.
وقد شاهد هؤلاء المكذِّبون بأعينهم انتصارَ الإسلام واندحار الكفر، وشاهدوا نقصان رقعة أرض الكفر، وازدياد رقعة أرض الإيمان، كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا..} [الرعد: 41] ومع ذلك لم يأخذوا من فتوحات الإسلام عبرة.
وقالوا: الحين يراد به القيامة حين يدخل هؤلاء المكذبون النارَ، عندها سيعلمون صِدْق هذا الكلام الذي أخبرهم الله به في قرآنه.
وكلمة النبأ لا تقال إلا للخبر العظيم الهام، كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67-68].
فما بالك بنبأٍ الذي وصفه بأنه عظيم هو الله؟ وعظمة الخبر تأتي بمقدار ما يُهيئ من الخير للإنسان، فالخبر بأنك نجحت في القبول، غير الخبر بنجاحك في التوجيهية، غير الخبر بأنك أصبحت وزيراً، فعِظَم الخبر بمقدار ما يحمل لك من الخير المرجو منه للإنسان.
إذن: ما بالك بالخير الذي ينتظرك بعد قيامك بالتكاليف الربانية، إنه خير لا يسعدك في دنياك المنقضية فحسب، إنما يسعدك في آخرتك الباقية الخالدة، فعِظَم هذا الخبر أنه ضَمِن لك الحياتين الدنيا والآخرة.
وأسأل الله في آخر السورة أنْ يجعل لنا حظاً من قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ}.