ولما كان نازلا من الحق ، مشتملا على الحق لهداية الخلق ، على أشرف الخلق ، عظمت فيه النعمة ، وجلَّت ، ووجب القيام بشكرها ، وذلك بإخلاص الدين للّه ، فلهذا قال : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } أي : أخلص للّه تعالى جميع دينك ، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة : الإسلام والإيمان والإحسان ، بأن تفرد اللّه وحده بها ، وتقصد به وجهه ، لا غير ذلك من المقاصد .
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) .
وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب ، هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود . وفي الآية الخامسة من السورة يجيء : ( خلق السماوات والأرض بالحق ) . فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض ، وأنزل به هذا الكتاب . الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض ؛ والذي ينطق به هذا الكتاب . الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود . .
( فاعبد الله مخلصاً له الدين ) .
والخطاب لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي أنزل إليه الكتاب بالحق . وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة . . عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد .
وتوحيد الله وإخلاص الدين له ، ليس كلمة تقال باللسان ؛ إنما هو منهاج حياة كامل . يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير ؛ وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة .
والقلب الذي يوحد الله ، يدين لله وحده ، ولا يحني هامته لأحد سواه ، ولا يطلب شيئاً من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه . فالله وحده هو القوي عنده ، وهو القاهر فوق عباده . والعباد كلهم ضعاف مهازيل ، لا يملكون له نفعاً ولا ضراً ؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم . وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . والله وحده هو المانح المانع ، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء .
والقلب الذي يوحد الله ، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله ؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد ، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه . ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم ، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة .
والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء ؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ؛ ويحس يد الله في كل ما حوله ، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه . ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد ، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله . خالق كل شيء ، ومحيي كل حي . ربه ورب كل شيء وكل حي . .
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر ، كما تبدو في السلوك والتصرفات . وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً . ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان . ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله : وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد ، في كل عصر ، وفي كل بيئة . فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك .
{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ } :
و : { الكتاب } الثاني : هو القرآن لا يحتمل غير ذلك .
وقوله : { بالحق } يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون معناه متضمناً الحق ، أي بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره . والثاني : أن يكون { بالحق } بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله .
وقوله تعالى : { فاعبد الله } يحتمل أن تكون الفاء عاطفة جملة من القول على جملة واصلة ، ويحتمل أن يكون كالجواب ، لأن قوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } جملة كأنه ابتداء وخبر ، كما لو قال : الكتاب منزل ، وفي الجمل التي هي ابتداء وخبر إبهام ما تشبه به الجزاء ، فجاءت الفاء كالجواب ، كما تقول : زيد قائم فأكرمه ، ونحو هذا :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التقدير : هذه خولان : و : { مخلصاً } حال . و : { الدين } نصب به . ومعنى الآية الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل ، و { الدين } هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح .
وافتتاح جملة { إنَّا أنزلنا إليكَ الكتَابَ بالحقّ } بحرف ( إنَّ ) مراعى فيه ما استعمل فيه الخبر من الامتنان . فيحمل حرف ( إنّ ) على الاهتمام بالخبر . وما أريد به من التعريض بالذين أنكروا أن يكون منزّلاً من الله فيحمل حرف ( إنّ ) على التأكيد استعمالاً للمشترك في معنييه . ولما في هذه الآية من زيادة الإِعلان بصدق النبي المنزل عليه الكتاب جدير بالتأكيد لأن دليل صدقه ليس في ذاته بل هو قائم بالإِعجاز الذي في القرآن وبغيره من المعجزات ، فكان مقضى التأكيد موجوداً بخلاف مقتضى الحال في قوله : { تَنزيلُ الكتابِ من الله } .
فجملة { إنَّا أنزلنا إليك الكتابَ } تتنزل منزلة البيان لجملة { تَنزيلُ الكتاببِ من الله . } وإعادة لفظ { الكِتَابِ } للتنويه بشأنه جرياً على خلاف مقتضى الظاهر بالإِظهار في مقام الإِضمار . وتعدية { أنزَلْنَا } بحرف الانتهاء تقدم في قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } في أول [ البقرة : 4 ] .
والباء في { بالحق } للملابسة ، وهي ظرف مستقرّ حالاً من { الكتابِ } ، أي أنزلنا إليك القرآن ملابساً للحق في جميع معانيه { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] .
وفرع على المعنى الصريح من قوله : { إنَّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحق } أن أمر بأن يعبد الله مخلصاً له العبادة . وفي هذا التفريع تعريض بما يناسب المعنى التعريضي في المفرّع عليه وهو أن المعرّض بهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين عليهم أن يدبَّروا في المعنى المعرض به .
وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكر بإفراده بالعبادة ، وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعَمِه التي أنعم بها ، فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله ، وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] .
فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإِخلاص من قوله { مُخلِصاً له الدينَ } ، فالمأمور به عبادة خاصة ، ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملاً في معنى الأمر بالدوام عليها . ولذلك أيضاً لم يُؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله : { بل الله فاعبد } [ الزمر : 66 ] لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإِخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يعبد غير الله . وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى : { بل الله فاعبد } في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلّة عالم .
والإِخلاص : الإِمْحاض وعدم الشوب بمغاير ، وهو يشمل الإِفراد . وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإِخلاص ، أي إفراد الله بالإلهية . وأوثر الإِخلاص هنا لإِفادة التوحيد وأخصَّ منه وهو أن تكون عبادة النبي ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى : { قُلْ مَا أسْئَلُكُمْ عَلَيهِ مِن أجْرٍ } [ ص : 86 ] .
والدين : المعاملة . والمراد به هنا معاملة المخلوق ربّه وهي عبادته . فالمعنى : مخلصاً له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره . وانتصب { مُخلصاً } على الحال من الضمير المستتر في { أعبد .
ولما أفاد قوله : { مُخلصاً له الدين } معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتضضٍ لتقديم مفعول { أعبد الله } على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله : { مخلصاً له الدين } ، وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رَأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيصَ ، وتضعيفِه لاستدلال أيمة المعاني بقوله تعالى : { بل الله فاعبد } آخر السورة [ 66 ] بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود فاعبد الله ، } قال في « إيضاح المفصل » في شرح قول صاحب « المفصل » في الديباجة « الله أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية » ، الله أحمد على طريقة
{ إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] تقديماً للأهم ، وما قيل : إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحْو { بل الله فاعبد } [ الزمر : 66 ] ضعيف لورود فاعبد الله اهـ . ونقل عنه أنه كتب في حاشيته على الإِيضاح } هنالك قوله : ( لا دليل فيه على الحصر فإن المعبودية من صفاته تعالى الخاصة به ، فالاختصاص مستفاد من الحال لا من التقديم ) اهـ .
وهو ضغث على إبَّالَة فإنه لم يقتصر على منع دليل شَهد به الذوق السليم عند أيمة الاستعمال وعلى سند منعه بتوهمه أن التقديم الذي لوحظ في مقام يجب أن يلاحظ في كل مقام ، كأنَّ الكلام قد جُعل قوالب يؤتى بها في كل مقام ، وذلك ينبو عنه اختلاف المقامات البلاغية ، حتى جعل الاختصاص بالعبادة مستفاداً من القرينة لا من التقديم ، كأن القرينة لو سلم وجودها تمنع من التعويل على دِلالة النطق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا أنزلنا إليك الكتاب} القرآن.
{بالحق}: لم ننزله باطلا لغير شيء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا أنزلنا إليك يا محمد "الكتاب"، يعني بالكتاب: القرآن "بالحقّ "يعني بالعدل يقول: أنزلنا إليك هذا القرآن يأمر بالحقّ والعدل، ومن ذلك الحقّ والعدل أن تعبد الله مخلِصا له الدين، لأن الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرّا ولا نفعا...
وقوله: "فاعْبُدِ اللّهِ مُخْلِصا لَهُ الدّينَ": يقول تعالى ذكره: فاخشع لله يا محمد بالطاعة، وأخلص له الألوهة، وأفرده بالعبادة، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكا، كما فَعَلَتْ عَبَدة الأوثان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل: {بالحق} أي بالحق الذي لله عليكم، وبالحق الذي لبعضكم على بعض.
يحتمل قوله: {فاعبد الله مخلصا له الدين} وجهين:
أحدهما: الأصل في الاعتقاد، أي اعتقد جعل كل عبادة وطاعة لله خالصا، لا تعتقد أحدا شريكا.
الثاني: في المعاملة، أي كل عبادة وطاعة اجعله لله خالصا، لا تجعل لغيره فيه شركا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق، وأنا مُحِقٌّ في إنزاله.
والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع، وتكون بالنَّفْس والقلب والروح، فالتي بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقِّي عن طلب الاختصاص...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مُخْلِصاً لَّهُ الدين} ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أحدهما: أن يكون معناه متضمناً الحق، أي بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره.
الثاني: أن يكون {بالحق} بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله...
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} ففيه سؤالان:
السؤال الثاني: ما المراد من قوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق}؟ والجواب: فيه وجهان الأول: المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبسا بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه.
الثاني: أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن الكتاب نازل من عند الله، وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزا لما عجزوا عن معارضته...
{فاعبد الله مخلصا له الدين} وفيه مسائل:
اعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها:
أما العبادة: فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله.
وأما الإخلاص: فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والامتثال، ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص، لأن قوله: {فاعبد الله مخلصا} صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص.
وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام؛
أحدها: أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل
وثانيها: أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار.
وثالثها: أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيرا في إيجاب الثواب أو دفع العقاب.
ورابعها: وهو أن يخلص تلك الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة، وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة.
من الناس من قال: {فاعبد الله مخلصا له الدين} المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله... وأما الأكثرون فقالوا الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي، وهذا هو الأولى لأن قوله: {فاعبد الله} عام.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فاعبد الله وحده لا شريك له، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد؛ ولهذا قال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله، وحده لا شريك له.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر أنه من عنده، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير، فقال صارفاً القول عن الغيبة منبهاً على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانياً، مبرزاً له في أسلوب العظمة مختبراً أنه خص به أعظم خلقه، معبراً بالإنزال الظاهر في الكل تجوزاً عن الحكم الجازم الذي لا مرد له: {إنا} أي على ما لنا من العظمة.
{أنزلنا} بما لنا من العظمة، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له صلى الله عليه وسلم، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به صلى الله عليه وسلم، ومن قرب منه ويسره وسهولته لأمته فقال: {إليك} أي خاصة بواسطة الملك، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس، وأظهر موضع الإضمار تفخيماً بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف.
{الكتاب} الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي، والكائن، متلبساً {بالحق} وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره، فالواقع تابع لأخباره لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لا خفاء بشيء منها، لا حلية له ولا لباس إلا الحق، فلا دليل أدل على كونه من عنده من ذلك، فليتبعوا خبره، ولينظروا عينه وأثره. ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد، ثبت أنه سبحانه الإله وحده، فتسبب عن ذلك قوله لفتاً للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلحظ جميع صفات الكمال؛ لأجل العبادة تعظيماً لقدرها؛ لأنها المقصود بالذات: {فاعبد الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك {مخلصاً} والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة.
{له} أي وحده {الدين} بمعانقة الأمر على غاية الخضوع؛ لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخسأ عنك الأعداء، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئاً من أمرك، فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص أنه لا سبيل للشيطان عليهم، وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم؛ لأجل صبرهم في إخلاصهم.
قال الرازي: قال الجنيد: الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها، ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال، وهو إفراد الله بالعمل، وفي الخبر "أنا أغنى الشركاء عن الشرك".
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
الفاءُ في قوله تعالى: {فاعبد الله مُخْلِصاً لهُ الدين} لترتيب الأمر بالعبادة على إنزالِ الكتاب إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي فاعبْدُه تعالى ممُحِّضاً له الدِّينَ من شوائب الشِّركِ والرِّياءِ حسبما بُيِّن في تضاعيف ما أُنزل إليك.
وقُرئ برفع الدِّينِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ عليه؛ لتأكيد الاختصاصِ المُستفاد من اللاَّمِ. والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً للأمر بإخلاصِ العبادةِ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما كان نازلا من الحق، مشتملا على الحق لهداية الخلق، على أشرف الخلق، عظمت فيه النعمة، وجلَّت، ووجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين للّه، فلهذا قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض، وأنزل به هذا الكتاب، الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض والذي ينطق به هذا الكتاب، الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود.
وتوحيد الله وإخلاص الدين له، ليس كلمة تقال باللسان؛ إنما هو منهاج حياة كامل. يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير؛ وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة. والقلب الذي يوحد الله، يدين لله وحده، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه. فالله وحده هو القوي عنده وهو القاهر فوق عباده. والعباد كلهم ضعاف مهازيل، لا يملكون له نفعاً ولا ضراً؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم. وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. والله وحده هو المانح المانع، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء. والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه. ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة. والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه؛ ويحس يد الله في كل ما حوله، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه. ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله. خالق كل شيء، ومحيي كل حي. ربه ورب كل شيء وكل حي.. وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرفات. وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً. ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان. ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله: وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد، في كل عصر، وفي كل بيئة. فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإِخلاص من قوله
{مُخلِصاً له الدينَ}، فالمأمور به عبادة خاصة، ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملاً في معنى الأمر بالدوام عليها، ولذلك أيضاً لم يُؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإِخلاص، والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يعبد غير الله...
والإِخلاص: الإِمْحاض وعدم الشوب بمغاير، وهو يشمل الإِفراد.
وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإِخلاص، أي إفراد الله بالإلهية. وأوثر الإِخلاص هنا لإِفادة التوحيد، وأخصَّ منه وهو أن تكون عبادة النبي ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى: {قُلْ مَا أسْئَلُكُمْ عَلَيهِ مِن أجْرٍ} [ص: 86].
والدين: المعاملة. والمراد به هنا معاملة المخلوق ربّه وهي عبادته، فالمعنى: مخلصاً له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره...
الحق هو الأمر الثابت الذي لا تأتي أغيار الزمن فتنقضه، وما دام الحق ثابتاً لا يتغير فلا يغرنك عُلُوُّ الباطل إنْ علا يوماً من الأيام؛ لأن عُلُو الباطل من ثبات الحق، فالباطل حين يعلو يعضُّ الناسَ، ويشقى به الخَلْقُ، ويكتوون بناره، وعندها يتطلعون للحق ويتشوَّقون إليه.
فكأن الباطل جندي من جنود الحق، والكفر جندي من جنود الإيمان. فالله تعالى لا يسلم الحق أبداً، ولكن يتركه فترة حتى يعلوَ الباطلُ عليه ليبلوَ غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غار هو عليه.
{فَاعْبُدِ اللَّهَ} يعني: ما دُمْنا قد أنزلنا إليك الكتاب بالحق فانظر ماذا في الكتاب، فيه منهج افعل كذا ولا تفعل كذا، فيه تكليفٌ للجوارح، ولابُدَّ أنْ يسبق العمل بالتكليف اقتناعُ القلب بالمكلف والإيمان به.
فأنت حين تقف أمام قضية صعبة تعجز عن التفكير فيها، أو أخذ قرار تذهب إلى مَنْ شُهِد له بالحكمة أو العلم والرأي ليفكر لك ويُعينك على أمرك، فمثل هذا الرجل تأتمنه وتسلم له زمام أمرك؛ لأن رأيه يصلحك.
إذن: لا بُدَّ قبل العمل بافعل ولا تفعل أن تثقَ وتتيقن بمن كلَّفك، وهذا هو الإيمان الذي ينبغي أن يسبق العملَ. لذلك نقول: لا ينفع إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، واقرأ قول الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
لذلك قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} فشرْطُ العبادة الإخلاص، والعبادة تعني طاعة العابد لأمر معبوده ونَهيه، وهذا التحديد لمعنى العبادة يُبطل عبادةَ كلِّ ما سِوَى الله تعالى، فالذين عبدوا غير الله من شمس أو قمر أو نجوم أو أشجار أو أحجار عبدوا آلهة -كما يزعمون- بلا منهج وبلا تكاليف.
إذن: فكلمة العبادة هنا خطأ وهي باطلة، فماذا قالت لهم هذه الآلهة؟ بِمَ أمرتْهُمْ وعَمَّ نَهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها؟ وماذا أعدت لمن كفر بها؟ فأول ما يُبطل عبادة غير الله أنها آلهة بلا منهج وبلا تكاليف.
أما الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىۤ} [الزمر: 3] فالله سبحانه نهى عن هذه الزُّلْفى، ونهى أنْ يكون بينه وبين عباده واسطة أو وسيلة...
ومعنى {مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} يعني: اجعل الدينَ خالصاً لوجه الله، وامنع الرياء لأن الذي ترائيه لا يملك لك من ثواب العمل شيئاً، فالمرائي الذي يرائي مثلاً في صدقته ينفع المحتاج بالصدقة، وهو لا ينتفع بها؛ لأن الله تركه يأخذ أجره مِمَّن يرائيه، والعبد مثلك لا يملك لك شيئاً.
وفَرْق في المعنى بين مُخْلِص بالكسر، ومُخْلَص بالفتح: المخلَص هو مَنْ يسبق عطاء الله لَه بالإخلاص فيخلص، أما المخلص فيصل بعطاء إخلاصه إلى عطاء الله. قلنا زمان: من الناس مَنْ يَصل بطاعة الله إلى كرامة الله يعني: ألحَّ في الطاعة وداوم طَرْق الباب حتى فُتِح له.
وآخر يصل بكرامة الله إلى طاعة الله، يعني: ربه يختاره للطاعة ويخطفه من الخلق أو من المعصية إلى الطاعة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان، ويجب على عباد الله المخلصين أن يخلصوا كلّ حياتهم لله وأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم وساحة عملهم ودائرة حديثهم عن كل ما هو لغير اللّه، وأن يفكروا به ويعشقوه، وأن يتحدثوا عنه ويعملوا من أجله، وأن يسيروا دائماً في سبيل رضاه، وهذا هو إخلاص الدين...