{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ } موسى { بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا } أي : له وللمخاصم المستصرخ ، أي : لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي ، وهو يستغيث بموسى ، فأخذته الحمية ، حتى هم أن يبطش بالقبطي ، { قَالَ } له القبطي زاجرا له عن قتله : { أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ } لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض ، قتل النفس بغير حق .
{ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } وإلا ، فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير قتل أحد ، فانكف موسى عن قتله ، وارعوى لوعظه وزجره ، وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين ، حتى تراود ملأ فرعون ، وفرعون على قتله ، وتشاوروا على ذلك .
ولكن الذي حدث أن موسى - بعد ذلك - انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي ، فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس ! ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها ، ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى - عليه السلام - بالغيظ من الظلم ، والنقمة على البغي ، والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل ، والتوفز لرد العدوان الطاغي ، الطويل الأمد ، الذي يحتفر في القلب البشري مسارب من الغيظ وأخاديد .
( فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ، قال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ? إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ، وما تريد أن تكون من المصلحين ) . .
وإنه ليقع حينما يشتد الظلم ، ويفسد المجتمع ، وتختل الموازين ، ويخيم الظلام ، أن تضيق النفس الطيبة بالظلم الذي يشكل الأوضاع والقوانين والعرف ؛ ويفسد الفطرة العامة حتى ليرى الناس الظلم فلا يثورون عليه ، ويرون البغي فلا تجيش نفوسهم لدفعه ؛ بل يقع أن يصل فساد الفطرة إلى حد إنكار الناس على المظلوم أن يدفع عن نفسه ويقاوم ؛ ويسمون من يدفع عن نفسه أو غيره ( جبارا في الأرض )كما قال القبطي لموسى . ذلك أنهم ألفوا رؤية الطغيان يبطش وهم لا يتحركون . حتى وهموا أن هذا هو الأصل ، وأن هذا هو الفضل ، وأن هذا هو الأدب ، وأن هذا هو الخلق ! وأن هذا هو الصلاح ! فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم عن نفسه ، فيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها . . إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا ، وسموا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا أو جبارا ، وصبوا عليه لومهم ونقمتهم . ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلا القليل ! ولم يجدوا للمظلوم عذرا - حتى على فرض تهوره - من ضيقه بالظلم الثقيل !
ولقد طال الظلم ببني إسرائيل ، فضاقت به نفس موسى - عليه السلام - حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى ويندم ، ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله ، ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه .
لذلك لم يتخل الله عنه ، بل رعاه ، واستجاب له ، فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال . وأن الظلم حين يشتد ، وتغلق أبواب النصفة ، يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام . فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى ، كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق .
وهذه هي العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين وما تلاهما ، فهو لا يبرر الفعلة ولكنه كذلك لا يضخمها . ولعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية . وهو المختار ليكون رسول الله ، المصنوع على عين الله . . أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان ؛ والله يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها ، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع . كما كف الله المسلمين في مكة عن الاشتباك حتى جاء الأوان .
ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس ، وأن شبهات تطايرت حول موسى . لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه ، إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه ، ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل .
نرجح هذا لأن قتل موسى لأحد رجال فرعون في معركة بينه وبين إسرائيلي في مثل هذه الظروف يعد حدثا مريحا لنفوس بني إسرائيل ، يشفى بعض غيظهم ، فيشيع عادة وتتناقله الألسنة في همس وفرح وتشف ، حتى يفشو ويتطاير هنا وهناك ، وبخاصة إذا عرف عن موسى من قبل نفرته من البغي ، وانتصاره للمظلومين .
فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة ، لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة ، وهو يراه يهم أن يبطش به ، وقال له تلك المقالة : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ? ) .
أما بقية عبارته : ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ) . . فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح ، لا يحب البغي والتجبر . فهذا القبطي يذكره بهذا ويوري به ؛ ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه . يريد أن يكون جبارا لا مصلحا ، يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين ، وتهدئة ثائرة الشر . وطريقة خطابه له وموضوع خطابه ، كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون . وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة ، ولما كان هذا موضوع خطابه .
ولقد قال بعض المفسرين : إن هذا القول كان من الإسرائيلي لا من القبطي ، لأنه لما قال له موسى : ( إنك لغوي مبين ) ، ثم تقدم نحوه وهو غاضب ليبطش بالذي هو عدو لهما ، حسب الإسرائيلي أنه غاضب عليه هو ، وأنه يتقدم ليبطش به هو ، فقال مقالته ، وأذاع بالسر الذي يعرفه وحده . . وإنما حملهم على هذا القول أن ذلك السر كان مجهولا عند المصريين .
ولكن الأقرب أن يكون القبطي هو الذي قال ما قال . وقد عللنا شيوع ذلك السر . وأنها قد تكون فراسة أو حدسا من المصري بمساعدة الظروف المحيطة بالموضوع .
والظاهر أن موسى لم يقدم بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس ، وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم فرعون أن موسى هو صاحبها . فهنا فجوة في السياق بعد المشهد السابق .
{ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما } لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولان القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل . { قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } قاله الإسرائيلي لأنه لما سماه غويا ظن أنه يبطش عليه ، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي . { إن تريد } ما تريد . { إلا أن تكون جبارا في الأرض } تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب . { وما تريد أن تكون من المصلحين } بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله .
البطش : الأخذ بالعنف ، والمراد به الضرب . وظاهر قوله { عدو لهما } أنه قبطي . وربما جعل عدواً لهما لأن عداوته للإسرائيلي معروفة فاشية بين القبط وأما عداوته لموسى فلأنه أراد أن يظلم رجلاً والظلم عدو لنفس موسى لأنه نشأ على زكاء نفس هيأها الله للرسالة . ، والاستفهام مستعمل في الإنكار .
والجبار : الذي يفعل ما يريد مما يضر بالناس ويؤاخذ الناس بالشدة دون الرفق . وتقدم في سورة إبراهيم ( 15 ) قوله { وخاب كل جبار عنيد } ، وفي سورة مريم ( 32 ) قوله { ولم يجعلني جباراً شقياً } .
والمعنى : إنك تحاول أن تكون متصرفاً بالانتقام وبالشدة ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين بأن تسعى في التراضي بينهما . ويظهر أن كلام القبطي زجر لموسى عن البطش به وصار بينهما حواراً أعقبه مجيء رجل من أقصى المدينة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما أن أراد أن يبطش} الثانية بالقبطي {بالذي هو عدو لهما} يعني: عدوا لموسى وعدوا للإسرائيلي، ظن الإسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به لقول موسى له: {إنك لغوي مبين} {قال} الإسرائيلي: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد} يعني: ما تريد {إلا أن تكون جبارا} يعني: قتالا {في الأرض} مثل سيرة الجبابرة القتل في غير حق {وما تريد أن تكون من المصلحين} يعني: من المطيعين لله عز وجل في الأرض.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما أراد موسى أن يبطش بالفرعونيّ الذي هو عدوّ له وللإسرائيلي، قال الإسرائيلي لموسى وظنّ أنه إياه يريد "أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كما قَتَلْتَ نَفْسا بالأَمْسِ"... عن السديّ، قال موسى للإسرائيلي: "إنّكَ لَغَوِيّ مُبِينٌ "ثم أقبل لينصره، فلما نظر إلى موسى قد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي، قالَ الإسرائيلي، وفَرِق من موسى أن يبطش به من أجل أنه أغلظ له الكلام: "يَا مُوسَى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كمَا قَتَلْتَ نَفْسا بالأَمْسِ، إنْ تُرِيدُ إلاّ أنْ تَكُونَ جَبّارا فِي الأرْضِ وَما تُرِيدُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ" فتركه موسى...
وقوله: "إنْ تُرِيدُ إلاّ أنْ تَكُونَ جَبّارا فِي الأرْضِ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الإسرائيليّ لموسى: "إن تريد": ما تريد إلاّ أن تكون جبارا في الأرض. وكان من فعل الجبابرة: قتل النفوس ظلما، بغير حقّ. وقيل: إنما قال ذلك لموسى الإسرائيل، لأنه كان عندهم مَن قتل نفسين: من الجبابرة... عن ابن جُرَيج، "إنْ تُرِيدُ إلاّ أنْ تَكُونَ جبّارا فِي الأرْضِ" قال: تلك سِيرة الجبابرة أن تقتل النفس بغير النفس. وقوله: "وَما تُرِيدُ أنْ تَكُونَ منَ المُصْلِحِينَ" يقول: ما تريد أن تكون ممن يعمل في الأرض بما فيه صلاح أهلها، من طاعة الله... عن ابن إسحاق "وَما تُرِيدُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ" أي ما هكذا يكون الإصلاح.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن: وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه: {فلما} وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال: {أن أراد} أي شاء، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي {أن يبطش} أي موسى عليه الصلاة والسلام {بالذي هو عدو لهما} أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه {قال} أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو، لما أوقعه فيه لا بعدوه: {يا موسى} ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه إليهما غضبان وهو يذمه {أتريد أن تقتلني} أي اليوم وأنا من شيعتك {كما قتلت نفساً بالأمس} أي من شيعة أعدائنا، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق بكون الكلام معه -بما أشير إليه بدخوله المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي، وبقوله {عدو لهما} من ذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في الإغراء به. مؤكداً بقوله: {إن} أي ما {تريد إلا أن تكون} أي كوناً راسخاً {جباراً} أي قاهراً غالباً؛ قال أبو حيان: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. {في الأرض} أي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد {وما تريد} أي يتجدد لك إرادة {أن تكون} أي بما هو لك كالجبلة {من المصلحين} أي العريقين في الصلاح، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، وكانوا- لما قتل ذلك القبطي -ظنوا في بني إسرائيل... فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} وإلا، فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير قتل أحد، فانكف موسى عن قتله، وارعوى لوعظه وزجره، وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين، حتى تراود ملأ فرعون، وفرعون على قتله، وتشاوروا على ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه ليقع حينما يشتد الظلم، ويفسد المجتمع، وتختل الموازين، ويخيم الظلام، أن تضيق النفس الطيبة بالظلم الذي يشكل الأوضاع والقوانين والعرف؛ ويفسد الفطرة العامة حتى ليرى الناس الظلم فلا يثورون عليه، ويرون البغي فلا تجيش نفوسهم لدفعه؛ بل يقع أن يصل فساد الفطرة إلى حد إنكار الناس على المظلوم أن يدفع عن نفسه ويقاوم؛ ويسمون من يدفع عن نفسه أو غيره (جبارا في الأرض) كما قال القبطي لموسى. ذلك أنهم ألفوا رؤية الطغيان يبطش وهم لا يتحركون. حتى وهموا أن هذا هو الأصل، وأن هذا هو الفضل، وأن هذا هو الأدب، وأن هذا هو الخلق! وأن هذا هو الصلاح! فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم عن نفسه، فيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها.. إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا، وسموا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا أو جبارا، وصبوا عليه لومهم ونقمتهم. ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلا القليل! ولم يجدوا للمظلوم عذرا -حتى على فرض تهوره- من ضيقه بالظلم الثقيل! ولقد طال الظلم ببني إسرائيل، فضاقت به نفس موسى -عليه السلام- حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى ويندم، ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله، ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه. لذلك لم يتخل الله عنه، بل رعاه، واستجاب له، فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال. وأن الظلم حين يشتد، وتغلق أبواب النصفة، يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام. فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى، كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق. وهذه هي العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين وما تلاهما، فهو لا يبرر الفعلة ولكنه كذلك لا يضخمها. ولعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية. وهو المختار ليكون رسول الله، المصنوع على عين الله.. أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان؛ والله يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع. كما كف الله المسلمين في مكة عن الاشتباك حتى جاء الأوان. ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس، وأن شبهات تطايرت حول موسى. لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه، إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه، ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل. نرجح هذا لأن قتل موسى لأحد رجال فرعون في معركة بينه وبين إسرائيلي في مثل هذه الظروف يعد حدثا مريحا لنفوس بني إسرائيل، يشفى بعض غيظهم، فيشيع عادة وتتناقله الألسنة في همس وفرح وتشف، حتى يفشو ويتطاير هنا وهناك، وبخاصة إذا عرف عن موسى من قبل نفرته من البغي، وانتصاره للمظلومين. فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة، لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة، وهو يراه يهم أن يبطش به، وقال له تلك المقالة: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟). أما بقية عبارته: (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين).. فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح، لا يحب البغي والتجبر. فهذا القبطي يذكره بهذا ويوري به؛ ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه. يريد أن يكون جبارا لا مصلحا، يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين، وتهدئة ثائرة الشر. وطريقة خطابه له وموضوع خطابه، كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون. وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة، ولما كان هذا موضوع خطابه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البطش: الأخذ بالعنف، والمراد به الضرب...
والجبار: الذي يفعل ما يريد مما يضر بالناس ويؤاخذ الناس بالشدة دون الرفق...
والمعنى: إنك تحاول أن تكون متصرفاً بالانتقام وبالشدة ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين بأن تسعى في التراضي بينهما. ويظهر أن كلام القبطي زجر لموسى عن البطش به وصار بينهما حواراً أعقبه مجيء رجل من أقصى المدينة.