ولهذا قال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } على أيدي رسله ، فإنه الحق ، وبينت لهم أدلته الظاهرة { قَالُوا } معارضين ذلك : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد كائنا من كان .
قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم : { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } فاستجاب له آباؤهم ، ومشوا خلفه ، وصاروا من تلاميذ الشيطان ، واستولت عليهم الحيرة .
فهل هذا موجب لاتباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم ، أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم ، وينادي على ضلالهم ، وضلال من اتبعهم .
وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم ، محبة لهم ومودة ، وإنما ذلك عداوة لهم ومكر بهم ، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه ، الذين تمكن منهم وظفر بهم ، وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير ، بقبول دعوته .
وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا . .
فهذا هو سندهم الوحيد ، وهذا هو دليلهم العجيب ! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير . التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه ؛ وأن يطلق عقولهم لتتدبر ؛ ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور ، فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف ، ويتمسكوا بالأغلال والقيود .
إن الإسلام حرية في الضمير ، وحركة في الشعور ، وتطلع إلى النور ، ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود . ومع ذلك كان يآباه ذلك الفريق من الناس ، ويدفعون عن أرواحهم هداه ، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . . ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم ، ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب :
أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ? . .
فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم ، لينتهي بهم إلى عذاب السعير . فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير ? . . لمسة موقظة ومؤثر مخيف ، بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف .
وجملة { وإذا قيل لهم } الخ عطف على صلة { مَن ، } أي : مَن حالهم هذا وذاك ، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة ( 170 ) .
والضمير المنصوب في قوله { يدعوهم } عائد إلى الآباء ، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يَدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون . و { لو } وصلية ، والواو معها للحال .
والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعماهم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار ، وهذا ذم لهم . وهو وزان قوله في آية البقرة ( 170 ) : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } والدعاء إلى عذاب السعير : الدعاء إلى أسبابه . والسعير تقدم في قوله تعالى : { كلما خَبَتْ زِدْنَاهم سعيراً } في سورة الإسراء ( 97 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يجادلون في توحيد الله جهلاً منهم بعظمة الله: اتبعوا أيها القوم ما أنزل الله على رسوله، وصدّقوا به، فإنه يفرق بين المحقّ منا والمبطل، ويفصل بين الضّالّ والمهتدى، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من الأديان، فإنهم كانوا أهل حقّ.
قال الله تعالى ذكره "أوَ لَوْ كانَ الشّيْطانُ يَدْعُوهُمْ "بتزيينه لهم سوء أعمالهم، واتباعهم إياه على ضلالتهم، وكفرهم بالله وتركهم اتباع ما أنزل الله من كتابه على نبيه "إلى عَذَابِ السّعِيرِ" يعني: عذاب النار التي تتسعر وتلتهب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... كأنه يقول لرسول الله أن قل لهم: تتبعون آباءكم، وتقلّدونهم وإن ظهر لكم وتبين أن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟ وأنهم من أصحاب السعير؟ وتتبعون آثارهم، وتقتدون بهم، وإن ظهر لكم، وتبين أن الذي أدعوكم إليه، وجئتكم به أهدى مما عليه آباؤكم، إذ تتبعون آباؤكم، وإن ظهر لكم، وتبين أن آباءكم كانوا لا يعقلون شيئا، ولا يهتدون.
حتى إن قالوا: نعم نتبعهم، وإن كانوا كما ذكرت، فإنه يظهر، ويتبين عنادهم ومكابرتهم عند اتباعهم إياهم حين ظهر الحق لهم، فلم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم...
{أو لو كان الشيطان يدعوهم} بل كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير...
بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله، وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئا آخر وهو أنهم قالوا: {بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل، والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزا، ويحتمل أن يكون حراما، وهم تعاطوه، ويحتمل أن يكون واجبا في اعتقادهم والقول بين الدلالة، فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله، لكان الواجب الأخذ بالقول، فكيف والقول من الله والفعل من الجهال {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} استفهاما على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب، وهم مع هذا يتبعون الشيطان...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
التركيب الذي فيه ولو، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا قيل} أي من أيّ قائل كان.
ولما كان ضلال الجمع أعجب من ضلال الواحد، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيباً من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى، أفرد أولاً وجمع هنا فقال: {لهم} أي للمجادلين هذا الجدال.
{اتبعوا ما} أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي، وأظهر لزيادة التشنيع أيضاً فقال: {أنزل الله} الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، وهو الذي لا عظيم إلا هو.
{قالوا} جموداً: لا نفعل {بل نتبع} وإن جاهدنا بالأنفس والأموال {ما وجدنا عليه آباءنا} لأنهم أثبت منا عقولاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل، كان التقدير: أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك، لكونه بغير دليل، فعطف عليه قوله: {أو لو كان الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة، وهو أعدى اعدائهم، دليلهم فهو {يدعوهم} إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك {إلى عذاب السعير} وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر، وأطلق العذاب على سببه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك، أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.. فهذا هو سندهم الوحيد، وهذا هو دليلهم العجيب! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير. التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه؛ وأن يطلق عقولهم لتتدبر؛ ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور، فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف، ويتمسكوا بالأغلال والقيود.
إن الإسلام حرية في الضمير، وحركة في الشعور، وتطلع إلى النور، ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود.
ومع ذلك كان يأباه ذلك الفريق من الناس، ويدفعون عن أرواحهم هداه، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم، ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟.. فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم، لينتهي بهم إلى عذاب السعير. فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير؟.. لمسة موقظة ومؤثر مخيف، بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف...
كلمة {مَا أَنزَلَ اللَّهُ.. عامة تشمل كل الكتب المنزّلة، وأقرب شيء في معناها أن نقول: اتبعوا ما أنزل الله على رسلكم الذين آمنتم بهم، ولو فعلتم ذلك لسلمتم بصدق رسول الله وأقررتم برسالته.
أو: يكون المعنى "اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ"..: تصحيحا للأوضاع، واعرضوه على عقولكم وتأملوه.
لكن يأتي ردهم: (بل) وبل تفيد إضرابهم عما أنزل الله "نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا"..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير الآية التالية إلى المنطق الضعيف السقيم لهذه الفئة، فتقول: (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا) ولمّا لم يكن اتّباع الآباء الجهلة المنحرفين جزءاً من أيّ واحد من الطرق الثلاثة المذكورة أعلاه للهداية، فإنّ القرآن ذكره بعنوان الطريق الشيطاني، وقال: (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير). إنّ القرآن في الحقيقة يزيح هنا الغطاء عن اتّباع سنّة الآباء والأجداد الزائفة، ويبيّن الوجه الحقيقي لعمل هؤلاء والذي هو في حقيقته اتّباع الشيطان في مسير جهنّم.
إنّ قيادة الشيطان بذاتها تستوجب أن يخالفها الإنسان وإن كانت مبطّنة بالدعوة إلى الحقّ، فمن المسلّم أنّه غطاء وخدعة، والدعوة إلى النار كافية لوحدها أيضاً للمخالفة بالرغم من أنّ الداعي مجهول الحال، فإذا كان الداعي الشيطان، ودعوته إلى نار جهنّم المستعرة، فالأمر واضح. هل يوجد عاقل يترك دعوة أنبياء الله إلى الجنّة، ويلهث وراء دعوة الشيطان إلى جهنّم؟!...