فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ يَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} (21)

{ وإذا قيل لهم } أي : لهؤلاء المجادلين ، والجمع باعتبار معنى { من } { اتبعوا ما أنزل الله } على رسوله من الكتاب ، تمسكوا بمجرد التقليد البحت ، و { قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا } فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام ، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون فيها في دينهم ؛ ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء .

قال ابن القيم : قد احتج العلماء بهذه الآية وأمثالها في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر ، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قلد رجلا فكفر ، وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة فأخطأ ، وجهها كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضا ، وإن اختلفت فيه ، والتقليد أنواع .

أحدها : الإعراض عما أنزل الله ، وعدم الالتفات إليه ، اكتفاء بتقليد الآباء .

الثاني : تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله .

الثالث : التقليد بعد قيام الحجة ، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد ، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة ، وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه ، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم ، ولا يكون العبد مهتديا حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله ، فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد ، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده ؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب .

وكان طريقة الأئمة إتباع الحجة ، والنهي عن تقليدهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه ، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقهم ، بل هو من المخالفين لهم ، وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة ، وانقاد للدليل ، ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يجعله مختارا على الكتاب والسنة ، يعرضهما على قوله ، وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد إتباعا ، وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما ، كما فرقت الحقائق بينهما فإن الإتباع سلوك المتبع ، والإتيان بمثل ما أتى به ، والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله ، وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد ، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم ، فلا يجوز قبول كل ما يقوله ، وينزل قوله منزلة المعصوم ، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض ، وحرموه وذموا أهله وهو أصلا بلاء المقلدين وفتنهم ، فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه وفيما لم يزل ، وليس لهم تمييز بين ذلك ، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد ، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ، ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك ، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد . انتهى ، بتصرف في العبارة ثم قال على طريق الاستفهام الاستبعاد والتبكيت :

{ أو لو كان الشيطان يدعوهم ؟ } أي : آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم أي : يتبعونهم في الشرك ، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع .

{ إلى عذاب السعير } لأنه زين لهم إتباع آبائهم ، والتدين بدينهم ، والأول أولى ، لأن مدار إنكار الأتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون أنفسهم كذلك ، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب ، فدعاؤه المتبوعين بتزيينه لهم الشرك ، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم ، وجواب ( لو ) محذوف ، أي : يدعوهم فيتبعونه ، وما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه ، وأوخم عاقبته وأشأم عائدته على من وقع فيه ، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحرق ، فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق ، وعذاب السعير .