وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة - بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة - ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل . فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان ، لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان .
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها . إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها . الأداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود - سبحانه - لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل ! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً .
في الزكاة وغير الزكاة . . وهم ينفقون ( مما رزقناهم ) . . فهو بعض مما رزقهم الرازق . . وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته . فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً . إنما هو مما رزقهم الله إياه - من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى - فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه ، ويحتفظون منه ببقية . والأصل هو رزق الله وحده !
تلك هي الصفات التي حدد الله بها - في هذا المقام - الإيمان . وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله ؛ والاستجابة الوجدانية لذكره ؛ والتأثر القلبي بآياته ؛ والتوكل عليه وحده ؛ وإقامة الصلاة له ، والإنفاق من بعض رزقه . .
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان - كما وردت في النصوص الأخرى - إنما هي تواجه حالة واقعة . . حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها . . فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة . وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملة ً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً . بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها . فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة . ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي ، لا منهج نظري معرفي ، مهمته بناء [ نظرية ] وعرضها لذاتها !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال: {الذين يقيمون الصلاة}، يعنى يتمون الصلاة، ركوعها، وسجودها في مواقيتها، {ومما رزقناهم} من الأموال {ينفقون} في طاعة ربهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين يؤدّون الصلاة المفروضة بحدودها، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه من زكاة وجهاد وحجّ وعمرة ونفقة على من تجب عليهم نفقته، فيؤدّون حقوقهم. "أولَئِكَ "يقول: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال. "هُمُ المُؤْمِنُونَ" لا الذين يقولون بألسنتهم قد آمنا وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقا، لا يقيمون صلاة ولا يؤدّون زكاة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا يرضَوْن في أعمالهم بإخلال، ولا يتصفون بجمْعِ مال من غير حلال، ولا يُعَرِّجون في أوطان التقصير بحال...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة...
والصفة الرابعة والخامسة: قوله: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} واعلم أن المراتب الثلاثة المتقدمة [في الآية السابقة] أحوال معتبرة في القلوب والبواطن، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر، ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصِّلات، والإنفاق في الجهاد، والإنفاق على المساجد والقناطر،...وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام، وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ينبه بذلك على أعمالهم، بعد ما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، وهو إقامة الصلاة، وهو حق الله تعالى...
والإنفاق مما رزقهم الله يشمل خراج الزكاة، وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
...إقامة الصلاة عبارة عن أدائها مقومة كاملة في صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر، وفي معناها وروحها الباطنة من خشوع وحضور في مناجاة الرحمان، وتدبر واتعاظ بتلاوة القرآن، وتقدم أن هذه الإقامة هي التي يستفيد صاحبها بها ما جعله الله تعالى ثمرة للصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وغير ذلك مما يراجع في مواضعه.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} أي وينفقون بعض ما رزقهم الله في وجوه البر من زكاة مفروضة لإقامة دولة الإسلام وغير ذلك من النفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين ومصالح الأمة. وتقدم تفسيرها في أول سورة البقرة وفي مواضع أخرى مع التنبيه إلى كثرة ما ورد في الكتاب العزيز من جعل الزكاة أو النفقة مقارنة للصلاة لأنهما العبادتان اللتان عليهما مدار الإصلاح الروحي والاجتماعي في الملة. والتعبير بالإنفاق أعم من التعبير بالزكاة كما علمت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها. إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها. الأداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود -سبحانه- لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً. (ومما رزقناهم ينفقون).. في الزكاة وغير الزكاة.. وهم ينفقون (مما رزقناهم).. فهو بعض مما رزقهم الرازق.. وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته. فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً. إنما هو مما رزقهم الله إياه -من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى- فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه، ويحتفظون منه ببقية. والأصل هو رزق الله وحده!...
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان -كما وردت في النصوص الأخرى- إنما هي تواجه حالة واقعة.. حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها.. فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة. وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملة ً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً. بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها. فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة. ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي، لا منهج نظري معرفي، مهمته بناء [نظرية] وعرضها لذاتها!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وَصْفُهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاءَ بإعادة الموصول، كما أعيد في قوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} في سورة البقرة (4)، وذلك للدلالة على الانتقال، في وصفهم، إلى غرض آخر غيرِ الغرض الذي اجتُلُبَ الموصول الأول لأجله، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان: وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها، ولكنه مجرد المدح، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في سورة البقرة (3). وجيء بالفعلين المضارعين في {يقيمون} و {ينفقون} للدلالة على تكرر ذلك وتجدده.
واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة، التي موصولها خبرٌ عن مبتدأ أن تُعتبر خبراً بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة، ومقتضى الاستعمال في الاخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبراً مستقلاً عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً. وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآيله إلى معنى قصر الإيمان الكاملِ على صاحب كل صلة من هذه الصلات، وعلى صاحب الخبرين، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه، فإن أدلة قطعية من أصول الدين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل {المؤمنون} [الأنفال: 2] على إرادة أصحاب الإيمان الكامل.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والتعبير بالمضارع في قوله تعالى: {يقيمون الصلاة} يفيد المداومة عليها في أوقاتها من غير تخلف؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر الدائم، والمحافظة عليها من غير انقطاع. وإن الصلاة فريضة عملية مهذبة تجريدية لله سبحانه وتعالى، وهي فريضة اجتماعية، لتأليف مجتمع متحاب متواد مترابط بصلات من الرحمة والتعاون، يجمعه الإلف الروحي والطهر والإخلاص والالتقاء عند الله تعالى في كل يوم خمس مرات...
. أما الزكاة فهي تعاون اجتماعي، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها مغنم لا مغرم، لأنها تغني الفقراء، وتدفع الآفات الاجتماعية الناجمة عن الفقر، ولقد قال تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} أي أن الزكاة من رزق الله تعالى، لا من فيها، فالله هو المعطي وهو المنفق وهو الآمر وهو المكلف، فتقديم الجار والمجرور، لبيان الاختصاص أو القصر، أي أن الإنفاق مما أعطاه الله دون غيره، وفيه من الاهتمام بأنه من رزق الله الذي رزقه للأغنياء ليعطوا منه للفقراء، فالمال مال اله، والجميع عباد الله، فهو يأخذ من مال الله ويعطي عباد الله.
ودائما ما نجد الصلاة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما، ولا تجد آية فيها ذكر للصلاة إلا وفيها ذكر للزكاة أيضا، لأن الصلاة تعني أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا الأسباب، وتذهب إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه، أي أنك قد اقتطعت جزءا من الزمن الذي كنت تقضيه في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق الأسباب. والزكاة تعني أنك تقتطع جزءا من مالك، ولذلك قلنا: إن الصلاة فيها زكاة وزيادة، فأنت تخرج مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصابا ويكون زائدا عن الحاجة الأصلية، لكنك بالصلاة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال، إذن ففي الصلاة زكاة وأكثر. وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال، لكنك في الصلاة تتنازل عن الوقت الذي هو محل العمل، وهو الذي تنتج فيه الرزق، والرزق وعاء الزكاة. ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية قائلا: {ومما رزقناهم ينفقون} ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به الإنسان، وحتى اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقا لكنه رزق غير طيب وله عقاب في الدنيا إن تم ضبطه، ولن يفلت من عقاب الله الحاكم العادل في الدنيا والآخرة، وهو بطبيعة الحال غير الرزق الحلال الذي يأتي من عمل مشروع، والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق الحلال، سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع الإيماني. وبعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}...و "أولئك "تشير إلى من أنعم الله عليهم بالصفات الخمس السابق ذكرها،...فالذي وجدت فيه هذه الصفات، ومؤمن حقا تكون له درجات عند ربه تناسب حظه من الحق وحظه من الصفاء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} بما يمثله الإنفاق من روحية العطاء في امتداده في حياة الناس، وتأكيده على الشخصية الإنسانية التي لا تعيش الشعور بالذاتية في ما تملكه من طاقاتٍ، بل تحسّ بالمشاركة للآخرين في ذلك كله، لأنه رزق الله الذي أراد لعباده أن لا يحتكروه لأنفسهم، في ما اقتضت حكمته من توزيع أرزاق عباده، على أساس أن يكون رزق بعضهم في يد البعض الآخر، مما يجعل من قضية العطاء حالةً تبادليّةً، فلكلِّ شخص طاقةٌ يعطيها للآخرين، وللآخرين طاقاتٌ يمنحونها له... وهكذا كانت حركة المجتمع في شخصية الفرد، في اتجاه حركة الفرد في شخصية المجتمع، في تفاعل وتعاون وعطاء...