{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }
يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة ، ويقيم عليهم الحجة ، ويوضح لهم المحجة ، فقال : { يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَّبِّكُمْ } أي : حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه ، وتبين ضده .
وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية ، الآيات الأفقية والنفسية { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ }
وفي قوله : { مِن رَّبِّكُمْ } ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته ، حيث كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية ، فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر ، أن أوصل إليكم البينات ، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم ، والوصول إلى جنات النعيم .
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } وهو هذا القرآن العظيم ، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة ، والأمر بكل عدل وإحسان وخير ، والنهي عن كل ظلم وشر ، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره ، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره .
ومن ثم دعوة إلى الناس كافة - كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي - أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله . وهي نور كاشف للظلمات والشبهات . فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه ؛ وسيجد فضل الله يشمله ؛ وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم :
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ؛ وأنزلنا إليكم نورا مبينا . فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا ) . .
وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس .
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) .
إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه ؛ يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر . . في مبناه وفي فحواه سواء . وهي قضية واضحة يدركها أحيانا من لا يفهمون من العربية حرفا واحدا ، بصورة تدعو إلى العجب .
كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى نيويورك ، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب . . ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة . وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها . وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون !
وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا - من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية - سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة ! جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة . وقالت لنا في انجليزية ضعيفة : أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم . . ولكن ليس هذا ما جئت من أجله . . إنني لا أفهم من لغتكم حرفا واحدا . غير أنني أحس أن فيها إيقاعا موسيقيا لم أعهدة في أية لغة . . ثم . . إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب . هي أشد إيقاعا . ولها سلطان خاص على نفسي ! ! !
وعرفت طبعا أنها الآيات القرآنية ، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص !
لا أقول : إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية . . ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة !
فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة ، وحس خاص بأساليبها ، فقد كان من أمرهم ما كان ؛ يوم واجههم محمد [ ص ] بهذا القرآن . . وقصة الأخنس بن شريق ، وأبى سفيان بن حرب ، وأبى جهل وعمرو بن هشام ، في الاستماع سرا للقرآن ، وهم به مأخوذون ، قصة مشهورة . وهي إحدى القصص الكثيرة . . والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب . .
فأما فحوى القرآن . . التصور الذي يحمله . والمنهج الذي يقرره . والنظام الذي يرسمه . و " التصميم " الذي يضعه للحياة . . فلا نملك هنا أن نفصله . . ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه ؛ وعلى أنه ليس من صنع الإنسان ، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان .
( وأنزلنا إليكم نورا مبينًا ) . .
نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة ؛ ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محددا مرسوما . . في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء . . حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولا ؛ فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحا . . حيث يتلاشى الغبش وينكشف ؛ وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية ، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة ؟ !
وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة ؛ ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه ، يحس يسرا وبساطة ووضوحا في رؤية الأمور . ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء ؛ وتلتزم حقائقها في يسر ؛ وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية ، ونصاعتها كما خرجت من يد الله . .
ومهما قلت في هذا التعبير : " وأنزلنا إليكم نورا مبينًا . . فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته ، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه ! ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني ! ولا بد من التذوق الذاتي ! ولا بد من التجربة المباشرة !
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال ، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل . فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّهاً إلى أهل الكتاب خاصّة . والبرهان : الحجّة ، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة ، وهو غالب ما يقصد به في القرآن ، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجَلّ أنواع الدليل ، بُرهاناً .
والمراد هنا دلائل النبوءة . وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله : { وأنزلنا } والقول في { جاءكم } كالقولِ في نظيره المتقدّم في قوله : { قد جاءكم الرّسول بالحقّ من ربّكم } [ النساء : 170 ] ؛ وكذلك القول في { أنزلنا إليكم } .