{ 107-108 ْ } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ْ }
أي : إن الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ، وشمل هذا الوصف جميع الدين ، عقائده ، وأعماله ، أصوله ، وفروعه الظاهرة ، والباطنة ، فهؤلاء -على اختلاف طبقاتهم من الإيمان والعمل الصالح -لهم جنات الفردوس .
يحتمل أن المراد بجنات الفردوس ، أعلى الجنة ، وأوسطها ، وأفضلها ، وأن هذا الثواب ، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح ، والأنبياء والمقربون .
ويحتمل أن يراد بها ، جميع منازل الجنان ، فيشمل هذا الثواب ، جميع طبقات أهل الإيمان ، من المقربين ، والأبرار ، والمقتصدين ، كل بحسب حاله ، وهذا أولى المعنيين لعمومه ، ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس ، ولأن الفردوس يطلق على البستان ، المحتوي على الكرم ، أو الأشجار الملتفة ، وهذا صادق على جميع الجنة ، فجنة الفردوس نزل ، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح ، وأي : ضيافة أجل وأكبر ، وأعظم من هذه الضيافة ، المحتوية على كل نعيم ، للقلوب ، والأرواح ، والأبدان ، وفيها ما تشتهيه الأنفس . وتلذ الأعين ، من المنازل الأنيقة ، والرياض الناضرة ، والأشجار المثمرة ، . والطيور المغردة المشجية ، والمآكل اللذيذة ، والمشارب الشهية ، والنساء الحسان ، والخدم ، والولدان ، والأنهار السارحة ، والمناظر الرائقة ، والجمال الحسي والمعنوي ، والنعمة الدائمة ، وأعلى ذلك وأفضله وأجله ، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه ، الذي هو أكبر نعيم الجنان ، والتمتع برؤية وجهه الكريم ، وسماع كلام الرءوف الرحيم ، فلله تلك الضيافة ، ما أجلها وأجملها ، وأدومها وأكملها " ، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق ، أو تخطر على القلوب ، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم ، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق ، ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق ، ولساروا إليها زرافات ووحدانا ، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية ، ولذات منغصة متلاشية ، ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة ، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة ، ولكن الغفلة شملت ، والإيمان ضعف ، والعلم قل ، والإرادة نفذت{[502]} فكان ، ما كان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
يخبر تعالى عن عباده السعداء ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوهم فيما جاؤوا به بأن لهم جنات الفردوس .
قال مجاهد : الفردوس هو : البستان بالرومية .
وقال كعب ، والسدي ، والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب .
وقال أبو أمامة{[18572]} الفردوس : سرة{[18573]} الجنة .
وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها .
وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير{[18574]} ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرَة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الفردوس{[18575]} ربوة الجنة ، أوسطها وأحسنها " {[18576]} وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعًا . وروي عن قتادة ، عن أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه . وقد نقله{[18577]} ابن جرير ، رحمه الله{[18578]}
وفي الصحيحين : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط{[18579]} الجنة ، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة " {[18580]}
لما فرغ من ذكر الكفرة والأخسرين أعمالاً الضالين ، عقب بذكر حالة المؤمنين ليظهر التباين ، وفي هذا بعث النفوس على اتباع الحسن القويم ، واختلف المفسرون في { الفردوس } فقال قتادة إنه أعلى الجنة وربوتها ، وقال أبو هريرة إنه جبل تنفجر منه أنهار الجنة ، وقال أبو أمامة ، إنه ُسَّرة الجنة ، ووسطها ، وروى أبو سعيد الخدري أنه تنفجر منه أنهار الجنة ، وقال عبد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكرم والأعناب خاصة من الثمار ، وقاله كعب الأحبار ، واستشهد قوم لذلك بقول أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة . . . فيها الفراديس والفومان والبصل{[7906]}
وقال الزجاج قيل إن { الفردوس } سريانية ، وقيل رومية ، ولم يسمع ب { الفردوس } في كلام العرب إلا في بيت حسان : [ الطويل ]
وإن ثواب الله كل موحد . . . جنان من الفردوس فيها يخلد{[7907]}
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس »{[7908]} ، وقالت فرقة { الفردوس } البستان بالرومية ، وهذا اقتضاب القول في { الفردوس } وعيون ما قيل ، وقوله { نزلاً } يحتمل الوجهين اللذين قدمناهما قبل .