وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله [ ص ]
- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين ( من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) . . والتعقيبات على هذا الموكب : ( وكذلك نجزي المحسنين ) . ( وكلا فضلنا على العالمين ) . . ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم}: واستخلصناهم بالنبوة، {وهديناهم إلى صراط مستقيم}، يعني: الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره ومن ذرّياتهم وإخوانهم آخرين سواهم لم يسمهم للحقّ والدين الخالص الذي لا شرك فيه، فوفقناهم له. "وَاجْتَبَيْنَاهُمْ "يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه، كالذي اخترنا ممن سمينا، يقال منه: اجتبى فلان لنفسه كذا: إذا اختاره واصطفاه يجتبيه اجتباء. وكان مجاهد يقول في ذلك: "وَاجْتَبَيْنَاهُمْ": أخلصناهم.
"وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوّج، وذلك دين الله الذي لا عوج فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربنا لأنبيائه وأمر به عباده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} أما آباؤهم فمن تقدمهم وذرياتهم من تأخرهم وإخوانهم الذين يقارنونهم. وقيل: ذرياتهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المؤمنون من بعدهم. وقوله تعالى: {واجتبيناهم} بالنبوة والرسالة {وهديناهم إلى صراط مستقيم} فذلك لهم خاصة. ويحتمل {واجتبيناهم} بالتوحيد ودين الإسلام؛ فذلك يعم الأنبياء والمؤمنين جميعا لأنه اجتباهم بذلك جميعا. ويحتمل {واجتبيناهم} بما ذكر من رفع الدرجات والفضائل، ويكون صلة قوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء} [الأنعام: 83] وذلك أيضا يعم الرسل والمؤمنين، والله أعلم بذلك. وفي قوله تعالى: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} الآية دلالة أن من آبائهم وذرياتهم من لم يجتبهم بقوله: {ومن} إذ "مِن "هو حرف التبعيض.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ومن آبائهم) "من "فيه للتبعيض؛ لأن آباء بعضهم كانوا مسلمين ومهتدين (وذرياتهم) أي: ومِن ذرياتهم، وأراد به: ذرية بعضهم أيضا؛ لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ذرية، وكان في ذرية بعضهم من كان كافرا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمراد من آمن منهم نبياً كان أو غير نبي، ويدخل عيسى عليه السلام في ضمير قوله: {ومن آبائهم}، ولهذا قال محمد بن كعب: الخال أب والخالة أم، {واجتبيناهم} معناه تخيرناهم وأرشدناهم وضممناهم إلى خاصتنا وأرشدناهم إلى الإيمان والفوز برضى الله تعالى. و «الذرية» الأبناء وينطلق على جميع البشر ذرية لأنهم أبناء، وقال قوم: إن الذرية تقع على الآباء لقوله تعالى: {وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك} يراد به نوع البشر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نص سبحانه على هؤلاء، وختم بتفضيل كل على العالمين، أتبعه على سبيل الإجمال أن غيرهم كان مهدياً، وأن فضل هؤلاء علة النص لهم على أسمائهم، فقال ترغيباً في سلوك هذا السبيل بكثرة سالكيه وحثاً على منافستهم في حسن الاستقامة عليه والسلوك فيه: {ومن} أي وهدينا أو وفضلنا من {آبائهم} أي أصولهم {وذرياتهم} أي من فروعهم من الرجال والنساء {وإخوانهم} أي فروع أصولهم، وعطف على العامل المقدر قوله: {واجتبيناهم} أي واخترناهم، ثم عطف عليه بيان ما هدوا إليه حثاً لنا على شكره على ما زادنا من فضله فقال: {وهديناهم} أي بما تقدم من الهداية {إلى صراط مستقيم} وأما الصراط المستقيم فخصصناكم به وأقمناكم عليه، فاعرفوا نعمتنا عليكم واذكروا تفضيلنا لكم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم} أي وهدينا من آباء من ذكر من الأنبياء أي بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، ومن المعلوم أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدي ابنه أو أبيه أو أخيه من الأنبياء كأبي إبراهيم وابن نوح، قال تعالى في سورة الحديد: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] وقيل إن العطف هنا على ما قبله مباشرة – أي وفضلنا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم وهم الذين اهتدوا بهديهم، على غيرهم من عالمي زمانهم الذين لم يهتدوا مثلهم.
{واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} وهذا عطف على (فضلنا) أي وفضلناهم واخترناهم واصطفيناهم بالاجتباء وهو افتعال من جبيت المال والماء في الحوض والثمرات الناضجة في الوعاء – إذا – جمعت ما تختاره منها، ولذلك قال الراغب الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء (ثم قال) واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء، وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {ومن آبائهم} عطف على قوله: {كُلاً}. فالتَّقدير: وهدينا من آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. وجعل صاحب « الكشاف» (مِن) اسما بمعنى بعض، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى: {من الَّذين هادوا يحرّفون} [النساء: 46]. وقدّر ابنُ عطيّة ومن تبعه المعطوف محذوفاً تقديره: ومن آبائهم جمعاً كثيراً أو مهديين كثيرين، فتكون (مِن) تبعيضية متعلّقة ب {هدينا}.
والذرّيَّات جمع ذرّيَّة، وهي مَن تناسل من الآدمي من أبناء أدْنَيْن وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات. ووجه جمعه إرادة أنّ الهدى تعلّق بذرّيّة كلّ من له ذرّيّة من المذكورين للتنبيه على أنّ في هدي بعض الذرّية كرامة للجدّ، فكلّ واحد من هؤلاء مراد وقوعُ الهدي في ذرّيَّته. وإنْ كانت ذرّياتهم راجعين إلى جدّ واحد وهو نوح عليه السّلام. ثمّ إن كان المراد بالهدى المقدّر الهُدَى المماثل للهُدى المصرّح به، وهو هُدى النّبوءة، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس عليهم السلام فإنّهم آباء نوح.
وأنت إن نظرت إلى هؤلاء الثمانية عشر نبيا المذكورين هنا، ستجد أنهم من الخمسة والعشرين رسولا الذين أمرنا بالإيمان بهم تفصيلا.
والحق سبحانه وتعالى لم يجعل من الأنبياء ملوكا إلا اثنين: داود وسليمان حتى يعطينا فكرة أن الله إذا أراد أن يقهر خلقا على شيء لا يقدر عليه أحد يبعث ملكا رسولا؛ لأن الملك لا يقدر عليه عبد لأن القدرة معه، والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه، وسبحانه لا يريد الإيمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالاختيار، ولذلك جعل أغلب الأنبياء ليسوا ملوكا.