{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } أي : لا يصدر منك إلى السائل كلام{[1452]} يقتضي رده عن مطلوبه ، بنهر وشراسة خلق ، بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف [ وإحسان ] .
وهذا يدخل فيه السائل للمال ، والسائل للعلم ، ولهذا كان المعلم مأمورًا بحسن الخلق مع المتعلم ، ومباشرته بالإكرام والتحنن عليه ، فإن في ذلك معونة له على مقصده ، وإكرامًا لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد .
وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة ، كانت - كما ذكرنا مرارا - من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة ، التي لا ترعى حق ضعيف ، غير قادر على حماية حقه بسيفه ! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل ، والتحرج والتقوى ، والوقوف عند حدود الله ، الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعفاف الذين لا يملكون قوة ولا سيفا يذودون به عن هذه الحقوق .
وكما عدد الله عليه هذه النعم الثلاث وصاه بثلاث وصايا في كل نعمة وصية مناسبة لها ، فبإزاء قوله { ألم يجدك يتيماً فآوى } قوله { فأما اليتيم فلا تقهر } ، وبإزاء قوله { ووجدك ضالاً فهدى } قوله { وأما السائل فلا تنهر } ، هذا عليه قول من قال إن { السائل } هنا هو السائل عن العلم والدين وليس بسائل المال ، وهو قول أبي الدرداء والحسن وغيره ، وبإزاء قوله { ووجدك عائلاً فأغنى } قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } ومن قال إن { السائل } هو سائل المحتاج وهو قول الفراء عن جماعة ، ومعنى { فلا تنهر } جعلها بإزاء قوله { ووجدك عائلاً فأغنى } ، وجعل قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } بإزاء قوله { ووجدك ضالاً فهدى } ، وقال إبراهيم بن أدهم نعم القول السؤال يجملون زادنا إلى الآخرة ، { فلا تنهر } معناه : فرد رداً جميلاً إما بعطاء وإما بقول حسن ، وفي مصحف ابن مسعود «ووجدك عديماً فأغنى » ، وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي ، «فأما اليتيم فلا تكهر » بالكاف ، قال الأخفش هي بمعنى القهر ، ومنه قول الأعرابي : وقاكم الله سطوة القادر وملكة الكاهر ، وقال أبو حاتم لا أظنها بمعنى القهر لأنه قد قال الأعرابي الذي بال في المسجد : فأكهرني النبي صلى الله عليه وسلم فإنها هي بمعنى الإشهار .
والتعريف في { السائل } تعريف الجنس فيعم كل سائل ، أي عمّا يُسال النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله .
فإن فسر { السائل } بسائل معروف كان مقابل قوله : { ووجدك عائلاً فأغنى } [ الضحى : 8 ] وكان من النشر المشوش ، أي المخالف لترتيب اللف ، وهو ما درج عليه « الكشاف » .
والنهر : الزجر بالقول مثل أن يقول : إليك عني . ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجاً وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإِسلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ وأما السائل } يعني الفقير المسكين { فلا تنهر } لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيرا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره ، ولكن أطعمه واقض له حاجته ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي كنت محتاجا فقيرا ، فعرفت محل الفقر والحاجة وشدة حاله { فلا تنهر } السائل ، أي لا تزجره ، ولكن أعطه ....
فيه نهي عن إغلاظ القول له ؛ لأن الانتهار هو الزجر وإغلاظ القول ؛ [...] ؛ وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد أُرِيد به جميع المكلفين . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالانتهار هو الصياح في وجه السائل الطالب للرفد...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي : إمَّا أن تُعْطِيَه . . أو تَرُدَّه برِفْقٍ ، أو وعدٍ . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وأما السائل } أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال { فلا تنهر } أي تزجر زجراً مهيناً ، فقد علمت مضاضة العيلة ، بل أعطه ولو قليلاً ، أو رده رداً جميلاً ، وكذا السائل في العلم . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم ، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة . . يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم ، وإلى كفاية كل سائل ، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه ، وفي أولها : الهداية إلى هذا الدين :
( فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر . وأما بنعمة ربك فحدث ) . .
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله ،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها... فقوله : { فأما اليتيم فلا تقهر } مقابل لقوله : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] لا محالة ، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليُتم ، فكن أنت مُكرماً للأيتام رفيقاً بهم ، فجمع ذلك في النهي عن قهره ، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام، ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته، فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى : { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] وقال : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً } [ الإسراء : 28 ] .
والقهر : الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا ، وتكون هذه المعاني بالفِعل كالدَّعّ والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } [ النساء : 5 ] ، وتكون بالإِشارة مثل عُبوس الوجه ، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامَل به غير اليتيم في مثل ذلك، فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] .
وقوله : { وأما السائل فلا تنهر } مقابل قوله : { ووجدك ضالاً فهدى } [ الضحى : 7 ] لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق ، فالضال معتبر من نصف السائلين ... فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين . فلا يختص السائلُ بسائل العطاء بل يشمل كل سائل، وأعظم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاد المسترشدين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«نَهَرَ » بمعنى ردّ بخشونة ، ولا يستبعد أن تكون مشتركة في المعنى مع «نهر » الماء ، لأنّ النهر يدفع الماء بشدّة . وفي معنى «السائل » عدّة تفاسير . الأوّل : أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية ، [...] والتّفسير الآخر : هو الفقير في المال والمتاع ،[...] والثّالث : أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً ، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين ، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومع إيوائه حين كان يتيماً .