والله تعالى أصدق قيلا ، وأصدق حديثا ، و { هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ } وأعلم بمن يهتدي . ويهدي . فيجب عليكم -أيها المؤمنون- أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه لأنه أعلم بمصالحكم ، وأرحم بكم من أنفسكم .
ودلت هذه الآية ، على أنه لا يستدل على الحق ، بكثرة أهله ، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق ، بل الواقع بخلاف ذلك ، فإن أهل الحق هم الأقلون عددا ، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا ، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل ، بالطرق الموصلة إليه .
وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } تقرير للآية السابقة ، وتأكيد لما يفيده مضمونها ، أى : إن ربك الذى لا تخفى عليه خافية هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن طريق الحق وهو أعلم منك ومن سائر الخلق - أيضاً - بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم ، فعليك - أيها العاقل - أن تكون من فريق المهتدين لتسعد كما سعدوا واحذر أن تركن إلى فريق الضالين ، فتشقى كما شقوا .
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد قررت أن الله وحده هو الحكم العدل ، وأ ، كتابه هو المهيمن على الكتب السابقة ، وأن أهل الكتب يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، وأنه - سبحانه - قد تكفل بحفظ كتابه من التغيير والتبديل ، وأن الطبيعة الغالبة فى البشر هى اتباع الظنون والأهواء ، لأن طلب الحق متعب ، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث والتمحيص ، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين فى أحكامهم ، والله وحده هو الذى يعلم الضالين والمهتدين من عباده .
وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة على وحدانيته وكمال قدرته . وسعة علمه ورد على الشبهات التى أثارها المشركون حول الدعوة الإسلامية بما يخرس ألسنتهم . وأثبت - سبحانه - أنه هو الحكم الحق ، وأن كتابه هو الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن أكثر أهل الأرض يتبعون الظن فى أحكامهم
تعليل لقوله : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك } [ الأنعام : 116 ] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء ، فليجتنبوا الضالّين ، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم . وكذلك شأن ( إنّ ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار : أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالّذي قبله ، بحيث تغني غَناء فاء التّفريع ، وتفيد التّعليل ، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين ، وهدى المهتدين ، كان قوله : { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } تذييلاً لجميع تلك الأغراض .
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله : { إن ربك } لتشريف المضاف إليه ، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهُدى ، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مُضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربّاً لهم . وقد قال أبو سفيان يوم أحُد : « لَنَا العُزّى ولا عُزّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجيبوه قولوا : " اللَّهُ مولانا ولا مولى لكم " .
و { أعلمُ } اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين ، ولا أحد من المهتدين ، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين ، ويفوته علم كثير من الفريقين ، وتخفَى عليه دخيلة بعض الفريقين .
والضّمير في قوله : { هو أعلم } ضمير الفصل ، لإفادة قصر المسند على المسند إليه ، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى ، لا يشاركه فيها غيره ، ووجه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر ، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس ، وكلّهم يعلم قصور علمه ، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالِم منهم ، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم ، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة .
و { مَنْ } موصولة ، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء ، كما دلّ عليه وجود الباء في قوله : { وهو أعلم بالمهتدين } لأنّ أفعل التّفضيل لا ينصب بنفسه مفعولاً به لضعف شبهه بالفعل ، بل إنّما يتعدّى إلى المفعول بالباء أو باللاّم أو بإلى ، ونصبه المفعول نادر ، وحقّه هنا أن يعدّى بالباء ، فحذفت الباء ايجازَ حذف ، تعويلا على القرينة . وإنَّما حذف الحرف من الجملة الأولى ، وأظهر في الثّانية ، دون العكس ، مع أنّ شأن القرينة أن تتقدّم ، لأنّ أفعل التّفضيل يضاف إلى جمعٍ يكون المفضّل واحداً منهم ، نحو : هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء ، فلمّا كان المنصُوباننِ فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب ، يلتبس المفعول بالمضاف إليه ، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى ، لأنّ الصّلة فيها دالّة على أنّ المراد أنّ الله أعلم بهم ، فلا يتوهّم أن يكون المعنى : الله أعلم الضّالّين عن سبيله ، أي أعلم عالممٍ منهم ، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال : فلان أعلم الجاهلين ، لأنّه كلام مُتناقض ، فإنّ الضّلال جهالة ، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم ، وذلك من أنواع القرينة الحاليَّة ، بخلاف ما لو قال : وهو أعلم المهتدين ، فقد يتوهّم السّامع أنّ المراد أنّ الله أعلم المهتدين ، أي أقوى المهتدين علماً ، لأنّ الاهتداء من العلم . هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله : { هو أعلم من يضل عن سبيله } من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به { أعلم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله}، يعني عن دينه الإسلام، {وهو أعلم بالمهتدين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثان، لئلا يضلوك عن سبيله، هو أعلم منك ومن جميع خلقه، أيّ خلقه يضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض، فيصدّوا عن طاعته واتباع ما أمر به.
{وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ} يقول: وهو أعلم أيضا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسداد، لا يخفى عليه منهم أحد. يقول: واتبع يا محمد ما أمرتك به، وانته عما نهيتك عنه من طاعة من نهيتك عن طاعته، فإني أعلم بالهادي والمضلّ من خلقي منك...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
مقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
هذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد، لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} فييسره لذلك {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فييسرهم لذلك، وكل ميسر لما خلق له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المقام للعلم الكاشف للحقائق المبين لما يتبع وما يجتنب، قال معللاً لهذا الإخبار: {إن ربك} أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب الكاشف للارتياب الهادي إلى الصواب {هو} أي وحده {أعلم} ولكون الحال شديد الاقتضاء للعلم، قطعه عما بعده ليسبق إلى الفهم أنه أعلم من كل من يتوهم فيه العلم مطلقاً ثم قال: {من} أي يعلم من {يضل} أي يقع منه ضلال يوماً ما {عن سبيله} أي الذي بينه بعلمه {وهو} أي وحده {أعلم بالمهتدين} كما أنه أعلم بالضالين، فمن أمركم باتباعه فاتبعوه، ومن نهاكم عنه فاجتنبوه، فمن ضل أرداه، ومن اهتدى أنجاه، فاستمسكوا بأسبابه حذراً من وبيل عقابه يوم حسابه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم قرر أن الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال هو الله وحده. لأن الله وحده هو الذي يعلم حقيقة العباد، وهو الذي يقرر ما هو الهدى وما هو الضلال: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).. فلا بد من قاعدة للحكم على عقائد الناس وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ونشاطهم وأعمالهم. لا بد من قاعدة لتقرير ما هو الحق وما هو الباطل في هذا كله -كي لا يكون الأمر في هذه المقومات هو أمر هوى الناس المتقلب واصطلاحهم الذي لا يقوم على علم مستيقن.. ثم لا بد من جهة تضع الموازين لهذه المقومات، ويتلقى منها الناس حكمها على العباد والقيم سواء. والله- سبحانه -يقرر هنا أنه هو- وحده -صاحب الحق في وضع هذا الميزان. وصاحب الحق في وزن الناس به، وتقرير من هو المهتدي، ومن هو الضال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعليل لقوله: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك} [الأنعام: 116] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالّين، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم... ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين، وهدى المهتدين، كان قوله: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} تذييلاً لجميع تلك الأغراض.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله: {إن ربك} لتشريف المضاف إليه، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهُدى، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مُضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربّاً لهم...
و {أعلمُ} اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين، ولا أحد من المهتدين، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين، ويفوته علم كثير من الفريقين، وتخفَى عليه دخيلة بعض الفريقين.
والضّمير في قوله: {هو أعلم} ضمير الفصل، لإفادة قصر المسند على المسند إليه، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى، لا يشاركه فيها غيره، ووجه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس، وكلّهم يعلم قصور علمه، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالِم منهم، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويختتم القرآن هذا الفصل بالآية الكريمة: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} ليؤكد للرسول الداعية أن يستمر في طريق الدعوة إلى الله، ولا يلتفت إلى المعوّقات والعقبات التي تواجهه في الطريق، وذلك بتحديد مسؤوليته عن النتائج السلبية والإيجابية، بالحدود التي تتناسب مع قدراته، في ما يملك من أساليب الدعوة، أو في ما يستطيعه من وسائل إثارة الأجواء وتحريك الساحة في هذا الاتجاه. أمّا ماذا يحدث بعد ذلك؟ فهو أمرٌ راجعٌ إلى الله، الذي هو أعلم من يضل عن سبيله من خلال ما يعلمه من طبيعة الظروف الداخلية والخارجية المحيطة به التي تحرّك إرادته في هذا الاتجاه المنحرف {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، في ما ينطلقون به من إرادةٍ صلبةٍ، وتفكير قويّ، وحركة واعية، تقودهم إلى خط الإيمان به. وذلك هو السبيل الأقوم الذي ينبغي للعاملين في سبيل الله والدعاة إليه أن يقتدوا به، ويحددوا الخط الفاصل بين مسؤوليتهم في حركة الدعوة، وبين ما هو خارجٌ عن نطاق مسؤوليتهم فيها، مما يرجع أمره إلى الله، لئلا يفقدوا الرؤية الواضحة في ما هو دورهم الطبيعي العملي، فلا يعيشوا العقدة النفسية أمام النتائج السلبية التي قد تحدث لهم لأسباب خارجةٍ عن اختيارهم لعلاقتها بأوضاعٍ وظروف عامة أو خاصة بعيدةٍ عن أجواء الدعوة وأساليبها...