اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (117)

في " أعلم " قولان :

أحدهما : أنَّها ليست للتَّفضِيل ، بل بِمَعْنَى اسم فاعل في قوته ، كأنه قيل : إن ربَّك هو يَعْلَم .

قال الواحدي - رحمها لله- : " ولا يجوز ذلك ؛ لأنَّه لا يطَابِق : وهو أعْلَم بالمُهتَدين " .

والثاني : أنَّها على بابها من التَّفْضِيل ، ثم اختلف هؤلاء في محلِّ " مَنْ " : فقال بعض البصْريِّين : هو جَرٌّ بحرف مُقَدَّر حُذِف وبقي عمله ؛ لقوة الدَّلالة عليه بِقَوْله : " وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدين " وهذا ليس بِشَيء ؛ لأنه لا يُحْذَف الجَارُّ ويبقى أثَرُه إلا في مواضع تقدَّم التَّنْبِيه عليها ، ما ورد بخلافها ، فضرورةٌ ؛ كقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أشَارَتْ كُلَيْبٍ بالأكُفِّ الأصَابِعُ{[15053]}

وقوله : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** حَتَّى تَبَذَّخَ فارْتَقَى الأعلامِ{[15054]}

الثاني : أنَّها في محلِّ نَصْب على إسْقاط الخَافِض ؛ كقوله : [ الوافر ]

تَمُرُّونَ الدِّيَارَ ولَمْ تَعوجُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[15055]}

قاله أبُو الفَتْح . وهو مَردُودٌ من وجهين :

الأول أن ذلك لا يطَّرِد .

الثاني : أن أفْعَل التَّفْضِيل لا تَنْصِبُ بِنَفْسِها ؛ لضَعْفها .

الثالث : وهو قَوْل الكُوفيين - أنّه نصب بنفس أفْعَل ، فإنها عندهم تَعْمل عمل الفِعْل .

الرابع : أنها مَنْصُوبة بِفعل مُقَدَّر يدل عليه أفْعَل ، قاله الفَارسيُّ ؛ وعليه خَرَّج قول الشاعر : [ الطويل ]

أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقيقةِ مِنْهُمُ *** وأضْرَبَ مَنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا{[15056]}

ف " القوانِس " نُصِب بإضمار فعلٍ ، أي : يَضْرِبُ القَوانِسَ ؛ لأن أفَعَل ضَعِيفة كما تقرَّر .

الخامس : أنَّها مَرْفُوعة المحلِّ بالابْتِداء ، و " يَضِل " : خَبَره ، والجُمْلَة مُعَلِّقة لأفْعَل التَّفْضِيل ؛ فهي محلِّ نَصْب بها ؛ كأنه قيل : أعلم أيُّ النَّاسِ يَضِل كقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى } [ الكهف : 12 ] ، وهذا رأي الكسائِي ، والزَّجَّاج{[15057]} ، والمُبَرِّد ، ومَكّي{[15058]} ، وإلاا أن أبا حيَّان{[15059]} ردَّ هذا ؛ بأن التَّعْلِيق فرع ثُبُوت العمل في المَفْعُول به ، وأفْعَل لا يَعْمل فيه ، فلا يُعَلَّق .

والرَّاجِح من هذه الأقْوَال : نَصْبُها بمضمر ، وهو قول الفَارسيِّ ، وقواعد البصريين مُوافِقَةٌ لَه ، ولا يَجُوز أن تكون " مَنْ " في محلِّ جرِّ بإضافة أفْعل إليْها ؛ لئلاَّ يلزم مَحْذُور عَظِيم ، وذلك أنَّ أفعل التَّفْضِيل لا تُضَاف إلاَّ إلى جنْسِها ، فإذا قُلْتَ : " زَيْد أعْلَم الضَّالِّين " لَزِم أن يكون " زَيْد " بَعْض الضَّالِّين ، أي : مُتَّصِفٌ بالضَّلال ، فهذا الوَجْه مُسْتَحيل في الآية الكريمة ، وهذا عند من قرأ{[15060]} " يَضِلُّ " يفتح حَرْف المُضارعة ، أمَّا من قرأ بضمِّه : " يُضِلّ " - وهو الحسن ، وأحمد بن أبي سُرَيْج- ، فقال أبُو البقاءِ{[15061]} : " يجُوز أن تكون " مَنْ " في موضع جرٍّ بإضافة " أفعل " إليها .

قال : " إمَّا على مَعْنَى : هو أعْلَم المُضِلِّين ، أي : من يجد الضَّلال وهو من أضْلَلْتُه ، أي : وَجَدْته ضالاً ؛ مثل أحْمدَتُه ، أي : وَجَدته مَحْمُوداً ، أو بِمَعْنى : أنه يَضِلُّ عن الهدى " .

قال شهب الدِّين{[15062]} : ولا حَاجَة إلى ارْتِكَاب مِثْل هذا في مثل الأمَاكن الحَرِجة ، وكان قد عبَّر قَبْل ذلك بِعِبَارات اسْتَعْظَمتُ النُّطْق بها ، فَضَربْت عَنْها إلى أمْثِلةٍ من قوْلي ، والَّذِي تُحْملُ عليه هذه القراءة ، ما تقدّم من المُخْتَار ؛ وهو النَّصْب بِمُضْمَر ، وفاعل " يُضِلّ " على هذه القراءة : ضمير يَعُود على اللَّه -تعالى- على مَعْنَى : يَجِدُه ضالاً ، أو يَخْلُق فيه الضَّلال " لا يسأل عمَّا يَفْعَل " ويجُوز أن يكُون ضمير " مَنْ " أيْ : أعْلَم مَنْ يضِلُّ النَّاس ، والمَفْعُول مَحْذُوف . وأمَّا على القراءة الشَّهيرة ، فالفَاعِل ضمير " مَنْ " فقط ، و " مَنْ " : يجُوز أن تكُن موصُولة ، وهو الظَّاهر ، وأن تكون نَكِرة مَوْصُوفة ، ذكره أبو البقاء{[15063]} .

فإن قيل هو " أعْلَم بالمُهْتَدِين " يوجب وقوع التَّفَاوت في عِلْم اللَّه ، وهو مُحَال ؟

فالجواب : أن حُصُول التَّفَاوُت في علم اللَّه مُحَال ، إلاَّ أن المَقْصُود من هذا اللَّفْظِ : العِنَاية بإظْهَار هداية المُهْتَدين فوق الهداية بإظهار ضلال الضَّالِّين ، ونظيرُه قوله - تعالى- : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] فذكر الإحْسَان مَرَّتَيْن ، والإساءة مرَّة واحدة ، ومَعْنَى : قوله - تعالى- : { أَعْلَمُ بالمهتدين } أي : يُجَازي كُلاَّ بما يستحقُّونَ .


[15053]:تقدم.
[15054]:تقدم.
[15055]:تقدم.
[15056]:تقدم.
[15057]:ينظر: معاني القرآن 2/314.
[15058]:ينظر: المشكل 1/285.
[15059]:ينظر: البحر المحيط 4/213.
[15060]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/29، الدر المصون 3/167.
[15061]:ينظر: الإملاء 1/259.
[15062]:ينظر: الدر المصون 3/167.
[15063]:ينظر: الإملاء 1/259.