ثم انتقلت الآيات إلى بيان مظاهر قدرته فى إنزال المطر ، بعد بيان مظاهر قدرته فى خلق السماوات والأرض وما اشتملنا عليه من كائنات ، فقال - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً } أى : ماء كثير المنافع والخيرات للناس والدواب والزروع .
{ فَأَنبَتْنَا بِهِ } أى : بذلك الماء { جَنَّاتٍ } أى : بساتين كثيرة زاخرة بالثمار .
{ وَحَبَّ الحصيد } أى : وحب النبات الذى من شأنه أن يصحد عند استوائه كالقمح والشعير وما يشبههما من الزروع .
فالحصيد بمعنى المحصود ، وهو صفة لموصوف محذوف أى : وحب الزرع الحصيد . فهذا التركيب من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه للعلم به .
وخص الحب بالذكر ، لاحتياج الناس إليه أكثر من غيره ، فصار كأنه المقصود بالبيان .
قوله تعالى : { ماء مباركاً } قيل يعني جميع المطر ، كله يتصف بالبركة وإن ضر بعضه أحياناً ، ففيه مع ذلك الضر الخاص البركة العامة . وقال أبو هريرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء المطر فسالت الميازيب قال : «لا محل عليكم العام » وقال بعض المفسرين : { ماء مباركاً } يريد به ماء مخصوصاً خالصاً للبركة ينزله الله كل سنة ، وليس كل المطر يتصف بذلك . { وحب الحصيد } هو البر والشعير ونحوه مما هو نبات محبب يُحصد ، و[ الحصيد ] صفة لمحذوف{[10519]} ، وقال مجاهد : حب الحصيد : الحنطة .
بعد التنظر والتذكير والتبصير في صنع السماوات وصنع الأرض وما فيهما من وقت نشأتهما نُقل الكلام إلى التذكير بإيجاد آثار من آثار تلك المصنوعات تتجدد على مرور الدهر حية ثم تموت ثم تحيا دَأْبا ، وقد غير أسلوب الكلام لهذا الانتقال من أسلوب الاستفهام في قوله : { أفلم ينظروا إلى السماء } [ ق : 6 ] إلى أسلوب الإخبار بقوله : { ونزلنا من السماء ماء مباركاً } إيذاناً بتبديل المراد ليكون منه تخلص إلى الدلالة على إمكان البعث في قوله : { كذلك الخروج } [ ق : 11 ] . فجملة { ونزلنا } عطف على جملة { والأرض مددناها } [ الحجر : 19 ] .
وقد ذكرت آثار من آثار السماء وآثار الأرض على طريقة النشر المرتب على وفق اللف .
والمبارك : اسم مفعول للذي جعلت فيه البركة ، أي جُعل فيه خير كثير . وأفعال هذه المادة كثيرة التصرف ومتنوعة التعليق . والبركة : الخير النافع لما يتسبب عليه من إنبات الحبوب والأعناب والنخيل . وتقدم معنى المبارك عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) . وفي هذا استدلال بتفصيل الإنبات الذي سبق إجماله في قوله : { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } [ ق : 7 ] لما فيه من سوق العقول إلى التأمل في دقيق الصنع لذلك الإنبات وأن حصوله بهذا السبب وعلى ذلك التطور أعظم دلالة على حكمة الله وسعة علمه مما لو كان إنبات الأزواج بالطفرة ، إذ تكون حينئذٍ أسباب تكوينها خفيّة فإذا كان خلق السماوات وما فيها ، ومد الأرض وإلقاء الجبال فيها دلائل على عظيم القدرة الربانية لخفاء كيفيات تكوينها فإن ظهور كيفيات التكوين في إنزال المال وحصول الإنبات والإثمار دلالة على عظيم علم الله تعالى .
والجنات : جمع جَنة ، وهي ما شُجر بالكَرْم وأشجار الفواكه والنخيلِ .
والحب : هو ما ينبت في الزرع الذي يُخرج سنابل تحوي حبوباً مثل البُرّ والشعير والذُّرة والسُّلْت والقطاني مما تحصد أصوله ليُدَقّ فيُخرج ما فيه من الحب .
و { حب الحصيد } مفعول { أنبتنا } لأن الحب مما نبت تبعاً لنبات سنبله المدلول على إنباته بقوله : { الحصيد } إذ لا يُحصد إلا بعد أن ينبت .
والحصيد : الزرع المحصود ، أي المقطوع من جذوره لأكل حبه ، فإضافة { حب } إلى { الحصيد } على أصلها ، وليست من إضافة الموصوف إلى الصفة . وفائدة ذكر هذا الوصف : الإشارة إلى اختلاف أحوال استحصال ما ينفع الناس من أنواع النبات فإن الجنات تُستثمر وأصولُها باقية والحبوب تستثمر بعد حصد أصولها ، على أن في ذلك الحصيد منافع للأنعام تأكله بعد أخذ حبه كما قال تعالى : { متاعاً لكم ولأنعامكم } [ النازعات : 33 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {ونزلنا من السماء ماء مباركا} يعني المطر فيه البركة حياة كل شيء {فأنبتنا به} بالمطر {جنات} يعني بساتين {وحب الحصيد} يعني حين يخرج من سنبله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَنَزّلْنا مِنَ السّماءِ ماءً "مطرا "مباركا"، فأنبتنا به بساتين أشجارا، وحبّ الزرع المحصود من البرّ والشعير، وسائر أنواع الحبوب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونزّلنا من السماء ماء مباركا} لأنه يستعمل في أمر الدين والدنيا، ويطهّر به كل شيء، ويزيّن، وبه حياة كل شيء ونماؤه. والمبارك كل خير يكون على النماء والزيادة في كل وقت... {فأنبتنا به جنات وحَبّ الحصيد} يقول: أنبتنا بذلك الماء المبارك المُنزل من السماء جنات أي بساتين. والمكان الذي جُمع فيه كل أنواع الشجر سُمّي بستانا وجنة. وقوله تعالى: {وحبّ الحصيد} أي أنبت ذلك الماء كل حبّ حصيد؛ فدخل قوله تعالى: {وحبّ الحصيد} أنواع الشجر والغرس والنبات. ثم قوله تعالى: {وحبّ الحصيد} والحصيد، هو الحبُّ نفسه. لكن أضاف الحبّ إلى الحصيد...
والحصيد ما يُحصد من القصب الذي يصير نبتا، لأن الحبّ، لا يُحصَد، وإنما يُحصد الساق منه، لذلك أضاف الحبّ إلى الحصيد، وهو ثمره، وقوامه به.
إشارة إلى دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض، فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما، وذلك إنزال الماء من السماء من فوق، وإخراج النبات من تحت. وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذا الاستدلال قد تقدم بقوله تعالى: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} فما الفائدة في إعادته بقوله {فأنبتنا به جنات وحب الحصيد}؟ نقول قوله {فأنبتنا} استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد بأن يرجع الله تعالى إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء {وحب الحصيد} فيه حذف تقديره وحب الزرع الحصيد وهو المحصود أي أنشأنا جنات يقطف ثمارها وأصولها باقية وزرعا يحصد كل سنة ويزرع في كل عام أو عامين، ويحتمل أن يقال التقدير وننبت الحب الحصيد والأول هو المختار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ونزلنا} أي شيئاً فشيئاً في أوقات على سبيل التقاطر وبما يناسب عظمتنا التي لا تضاهى بغيب، بما له من النقل والنبوع والنفوذ، فنزل دفعة واحدة، فأهلك ما نزل عليه فزالت المفقرة وعادت المنفعة مضرة {من السماء} أي المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر {ماء مباركاً} أي نافعاً جداً ثابتاً لا خيالاً محيطاً بجميع منافعكم. ولما كان الماء سبباً في تكون الأشياء، وكان ذلك سبباً في انعقاده حتى يصير خشباً وحباً وعنباً، وغير ذلك عجباً، قال: {فأنبتنا} معبراً بنون العظمة {به جنات} من الثمر والشجر والزرع وغيره مما تجمعه البساتين فتجنّ -أي تستر- الداخل فيها. ولما كان القصب الذي يحصد فيكون حبه قوتاً للحيوان وساقه للبهائم، خصه بقوله: {وحب الحصيد}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والماء النازل من السماء آية تحيي موات القلوب قبل أن تحيي موات الأرض. ومشهده ذو أثر خاص في القلب لا شك فيه. وليس الأطفال وحدهم هم الذين يفرحون بالمطر ويطيرون له خفافا. فقلوب الكبار الحساسين تستروح هذا المشهد وتصفق له كقلوب الأطفال الأبرياء، القريبي العهد بالفطرة! ويصف الماء هنا بالبركة، ويجعله في يد الله سببا لإنبات جنات الفاكهة وحب الحصيد -وهو النبات المحصود- ومما ينبته به النخل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد التنظر والتذكير والتبصير في صنع السماوات وصنع الأرض وما فيهما من وقت نشأتهما نُقل الكلام إلى التذكير بإيجاد آثار من آثار تلك المصنوعات تتجدد على مرور الدهر حية ثم تموت ثم تحيا دَأْبا، وقد غير أسلوب الكلام لهذا الانتقال من أسلوب الاستفهام في قوله: {أفلم ينظروا إلى السماء} [ق: 6] إلى أسلوب الإخبار بقوله: {ونزلنا من السماء ماء مباركاً} إيذاناً بتبديل المراد ليكون منه تخلص إلى الدلالة على إمكان البعث في قوله: {كذلك الخروج} [ق: 11]. فجملة {ونزلنا} عطف على جملة {والأرض مددناها} [الحجر: 19].
وقد ذكرت آثار من آثار السماء وآثار الأرض على طريقة النشر المرتب على وفق اللف.
والمبارك: اسم مفعول للذي جعلت فيه البركة، أي جُعل فيه خير كثير. وأفعال هذه المادة كثيرة التصرف ومتنوعة التعليق. والبركة: الخير النافع لما يتسبب عليه من إنبات الحبوب والأعناب والنخيل. وتقدم معنى المبارك عند قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} في سورة آل عمران (96). وفي هذا استدلال بتفصيل الإنبات الذي سبق إجماله في قوله: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7] لما فيه من سوق العقول إلى التأمل في دقيق الصنع لذلك الإنبات وأن حصوله بهذا السبب وعلى ذلك التطور أعظم دلالة على حكمة الله وسعة علمه مما لو كان إنبات الأزواج بالطفرة، إذ تكون حينئذٍ أسباب تكوينها خفيّة فإذا كان خلق السماوات وما فيها، ومد الأرض وإلقاء الجبال فيها دلائل على عظيم القدرة الربانية لخفاء كيفيات تكوينها فإن ظهور كيفيات التكوين في إنزال المال وحصول الإنبات والإثمار دلالة على عظيم علم الله تعالى.