ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستمر فى دعوته دون أن يعول على تعنت المشركين فقال - تعالى - { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } .
أى عليك يا محمد أن تداوم على تبليغ رسالتك ، متبعا فى ذلك ما أوحاه إليك ربك الذى لا إله إلا هو من آيات وهدايات ، معرضا عن المشركين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون .
وجملة { لا إله إِلاَّ هُوَ } معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة لقوله " من ربك " بمعنى : منفرداً فى الألوهية .
استئناف في خطاب النّبيء عليه الصّلاة والسّلام لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم ، فابتداؤه بالأمر باتّباع ما أوحي إليه يتنزّل منزلة المقدّمة للأمر بالإعراض عن المشركين ، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام ، لأنّ اتّباع الرّسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه ؛ فالمقصود من الأمر الدّوام على اتّباعه . والمعنى : أعرض عن المشركين اتّباعاً لما أنزل إليك من ربّك . والمراد بما أوحي إليه القرآن .
والاتِّباع في الأصل اقتفاء أثر الماشِي ، ثمّ استعمل في العمل بمثل عمل الغير ، كما في قوله : { والّذين اتّبعوهم بإحسان } [ التوبة : 100 ] . ثمّ استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار ، ويتعدّى فعله إلى ذات المتَّبَع فيقال : اتَّبعت فلاناً بهذه المعاني الثّلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك لأنّ الاتّباع لا يتعلّق بالذّات .
وإطلاق الاتّباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنّه جاء بالأمر والنّهي وأمر النّاس باتّباعه ، واستُعمل أيضاً في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل ، لأنّ من يتّبع أحداً يلازمه . ومنه سمّي الرّئيّ من الجنّ في خرافات العرب تابعة ، ومنه سمّى من لازم الصّحابي وروى عنه تابعياً .
فيجوز أن يكون الاتّباع في الآية مراداً به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم ، فالاتّباع المأمور به اتّباع في شيء مخصوص ، وهذا مأمور به غير مرّة ، فالأمر بالفعل مستمرّ في الأمر بالدّوام عليه .
ويجوز أن يكون أمراً بملازمة الدّعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التّوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لَيْن ولا هوادة حتّى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إيّاه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرصَ على إيمانهم واعتقاد أنّ محاولة إيمانهم لا جدوى لها . فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطاباً للمشركين ، أو أمراً بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك ، فيكون الكلام شدّاً لساعد النّبيء صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله ، وهذا هو المناسب لقوله : { لا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله } [ الأنعام : 108 ] كما سنبيّنه . وقد تقدّم شيء من هذا آنفاً عند قوله تعالى : { إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يوحَى إليّ } [ الأنعام : 50 ] . وليس المراد من الأمر بالاتّباع الأمرُ باتّباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقاً ، لأنّه لا مناسبة له بهذا السّياق ، وفي الإتيان بلفظ : { ربّك } دون اسم الجلالة تأنيس للرّسول صلى الله عليه وسلم وتلطّف معه .
وجملة : { لا إله إلاّ هو } معترضة ، والمقصود منها إدماج التّذكير بالوحدانيّة لزيادة تقرّرها وإغاظة المشركين .
والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم ، فإنّ الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدّعوة لأي صنف من النّاس ، وكلّ آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنّما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم ، ألا ترى كلّ آية من هذه الآيات قد تلتْها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشّرك كقوله تعالى في سورة [ النّساء : 63 ] : { فأعرض عنهم وعِظْهُم } وقد تقدّم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اتبع يا محمد ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، فاعمل به، وانزجر عما زجرك عنه فيه، ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام، فإنه "لا إله إلاّ هُوَ "يقول: لا معبود يستحقّ عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحبّ والنوى وفالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً. "وَأعْرِضْ عَنِ المُشركينَ"، يقول: ودع عنك جدالهم وخصومتهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي اعمل بما أوحي. ثم الأمر بالعمل يحتمل وجهين: يحتمل الأمر بالاعتقاد بذلك، ويحتمل [العمل نفسه] أي اعمل. ويشبه أن يكون الأمر بالاتباع اتباع ما أوحي إليه صدقا في الخبر وعدلا في الحكم كقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115] قيل: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام. فعلى ذلك أمكن أن يكون الأمر بالاتباع اتباع ما أوحي إليه صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام. ثم على ما أمر نبيه باتباع ما أوحي [إليه] من ربه أمر أمته كذلك، وهو قوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] [ونهاهم] عن اتباع ما اتخذوا من دونه أولياء. فعلى ما نهاهم عن اتخاذ أولياء [من] دونه قال في الآية التي أمر رسوله باتباع ما أوحي إليه من ربه، فقال: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو}. وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} [وقوله تعالى]: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} واحد، لأنه أمر باتباع ما أوحي إليه من ربه، ونهي أن يتبع من دونه أولياء، لأنه أخبر {لا إله إلا هو}. وقوله تعالى: {وأعرض عن المشركين} يحتمل أمره بالإعراض عن المشركين وجوها: يحتمل ألا تكافئهم على أذاهم، ولكن اصبر، ويحتمل الإعراض عنهم النهي عن قتالهم... ثم على ما أمر نبيه بالإعراض عنهم أمر المؤمنين أيضا بالإعراض عنهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذان أمران للنبي صلى الله عليه وسلم مضمنهما الاقتصار على اتباع الوحي وموادعة الكفار...
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن إلى الافتراء أو إلى أنه يدارس أقواما ويستفيد هذه العلوم منهم ثم ينظمها قرآنا ويدعي أنه نزل عليه من الله تعالى، أتبعه بقوله: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة، والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حصل بسبب سماع تلك الشبهة، ونبه بقوله: {لا إله إلا هو} على أنه تعالى لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته، ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"اتبع ما أوحي إليك من ربك" يعني القرآن، أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن بين تعالى لرسوله أن الناس فريقان؛ فريق قد فسدت فطرتهم ولم يبق فيهم استعداد للاهتداء بتلك البصائر المنزلة، ولا للعلم بما فيها من تصريف الآيات البينة، فحظهم منها مكابرتها، وجحود تنزيلها. وفريق يعلمون، وبالبيان يهتدون – أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه، بالبيان له والعمل به، مشيرا بإضافة اسم الرب إلى ضميره، إلى تعظيم شأنه وتكبيره، وإلى كون الوحي إليه صلى الله عليه وسلم تربية له في نفسه، وناصبا إياه إماما لجميع أبناء جنسه، يتربى به من وفق منهم لاتباعه، وذلك أن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل بما يعلم، ويأتمر بما يأمر، وقرن هذا الأمر بكلمة توحيد الألوهية، لبيان وجوب ملازمته لتوحيد الربوبية، فكما أن الخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق، وللأرواح بما أنزل من الوحي واحد لا شريك له في الخلق ولا في الهداية، فالواجب أن يكون الإله المعبود واحدا لا شريك له في الجزاء على الأعمال بشفاعة ولا ولاية، فالأمر هنا بالاتباع ليس الغرض منه مجرد المداومة عليه، كما هو الشأن في أكثر من يأمر بالعمل من هو متلبس به، وإنما الغرض منه بيان كونه من متممات التبليغ، ثم عطف هذا الأمر المقرون بكلمة التوحيد، أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، بأن لا يبالي بإصرارهم على الشرك، ولا بمثل قولهم له دارست أو درست، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص، لا يضره الباطل بخرافات الأعمال ولا بزخارف الأقوال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون، وقوم عمي لا يعلمون! ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم، وقد صرف الله الآيات، فافترق الناس في مواجهتها فريقين.. يصدر الأمر العلوي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أوحي إليه، وأن يعرض عن المشركين، فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم. فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه؛ فيصوغ حياته كلها على أساسه؛ ويصوغ نفوس أتباعه كذلك. ولا عليه من المشركين؛ فإنما هو يتبع وحي الله، الذي لا إله إلا هو، فماذا عليه من العبيد؟! (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو، وأعرض عن المشركين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف في خطاب النّبيء عليه الصّلاة والسّلام لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم، فابتداؤه بالأمر باتّباع ما أوحي إليه يتنزّل منزلة المقدّمة للأمر بالإعراض عن المشركين، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام، لأنّ اتّباع الرّسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه؛ فالمقصود من الأمر الدّوام على اتّباعه. والمعنى: أعرض عن المشركين اتّباعاً لما أنزل إليك من ربّك. والمراد بما أوحي إليه القرآن... وإطلاق الاتّباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنّه جاء بالأمر والنّهي وأمر النّاس باتّباعه، واستُعمل أيضاً في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل، لأنّ من يتّبع أحداً يلازمه. ومنه سمّي الرّئيّ من الجنّ في خرافات العرب تابعة، ومنه سمّى من لازم الصّحابي وروى عنه تابعياً. فيجوز أن يكون الاتّباع في الآية مراداً به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم، فالاتّباع المأمور به اتّباع في شيء مخصوص، وهذا مأمور به غير مرّة، فالأمر بالفعل مستمرّ في الأمر بالدّوام عليه. ويجوز أن يكون أمراً بملازمة الدّعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التّوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لَيْن ولا هوادة حتّى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إيّاه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرصَ على إيمانهم واعتقاد أنّ محاولة إيمانهم لا جدوى لها. فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطاباً للمشركين، أو أمراً بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك، فيكون الكلام شدّاً لساعد النّبيء صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله، وهذا هو المناسب لقوله: {لا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله} [الأنعام: 108] كما سنبيّنه. وقد تقدّم شيء من هذا آنفاً عند قوله تعالى: {إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يوحَى إليّ} [الأنعام: 50]. وليس المراد من الأمر بالاتّباع الأمرُ باتّباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقاً، لأنّه لا مناسبة له بهذا السّياق، وفي الإتيان بلفظ: {ربّك} دون اسم الجلالة تأنيس للرّسول صلى الله عليه وسلم وتلطّف معه...
والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم، فإنّ الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدّعوة لأي صنف من النّاس، وكلّ آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنّما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم، ألا ترى كلّ آية من هذه الآيات قد تلتْها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشّرك كقوله تعالى في سورة [النّساء: 63]: {فأعرض عنهم وعِظْهُم} وقد تقدّم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذا في الواقع ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكيلا ينتاب عزمه الراسخ الصلب أي ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين. يتبيّن ممّا قلناه بجلاء أنّ عبارة (وأعرض عن المشركين) لا تتعارض مطلقاً مع الأمر بدعوتهم إِلى الإِسلام ولا مع الجهاد ضدهم، فالمقصود هو أن لا يلقي اهتماماً إِلى أقوالهم الباطلة واتهاماتهم الكاذبة، بل يمضي في طريقه بثبات.