{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك ونفاق { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } أي : مرضا إلى مرضهم ، وشكا إلى شكهم ، من حيث إنهم كفروا بها ، وعاندوها وأعرضوا عنها ، فازداد لذلك مرضهم ، وترامى بهم إلى الهلاك { و } الطبع على قلوبهم ، حتى { مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ }
وهذا عقوبة لهم ، لأنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله ، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه .
هذا شأن المؤمنين بالنسيبة لنزول السورة القرآنية ، وأما المنافقون ، فقد صور القرآن حالهم بقوله { وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } .
أى : وأما الذين في قلوبهم شك ونفاق وارتياب . فزادهم نزول السورة كفرا على كفرهم السابق .
وسمى - سبحانه - الكفر رجسا ، لأنه أقبح الأشياء وأسوؤها .
وقوله : { وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } تذييل قصد به بيان سوء عقابتهم في الآخرة بعد بيان سوء أعمالهم في الدنيا .
أى : لقد قضى هؤلاء المنافقون حياتهم في الكفر والفسوق والعصان ، ثم لم يتوبوا عن ذلك ولم يرجعوا عنه ، بل ماتوا على الكفر والنفاق .
يقول تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ } فمن المنافقين { مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } ؟ أي : يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ قال الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } .
وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول " شرح البخاري " رحمه الله ، { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } أي : زادتهم شكا إلى شكهم ، وريبا إلى ريبهم ، كما قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] ، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم ، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىَ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأما الذين في قلوبهم مرض ، نفاق وشكّ في دين الله ، فإن السورة التي أنزلت زادتهم رجسا إلى رجسهم وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله ، فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا ، فكان ذلك زيادة شكّ حادثة في تنزيل الله لزمهم الإيمان به عليهم بل ارتابوا بذلك ، فكان ذلك زيادة نتن من أفعالهم إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق ، وذلك معنى قوله : فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا يعني هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا ، وَهُمْ كافِرُونَ يعني وهم كافرون بالله وآياته .
و { الذين في قلوبهم مرض } هم المنافقون ، وهذا تشبيه وذلك أن السالم المعتقد المنشرح الصدر بالإيمان يشبهه الصحيح ، والفاسد المعتقد يشبهه المريض ، ففي العبارة مجاز فصيح لأن المرض والصحة إنما هي{[5983]} خاصة في الأعضاء ، فهي في المعتقدات مجاز ، و «الرجس » في هذه الآية عبارة عن حالهم التي جمعت معنى الرجس في اللغة ، وذلك أن الرجس في اللغة يجيء بمعنى القذر ويجيء بمعنى العذاب ، وحال هؤلاء المنافقين هي قذر وهي عذاب عاجل كفيل بآجل ، وزيادة «الرجس إلى الرجس » هي عمههم في الكفر وخبطهم في الضلال يعاقبهم الله على الكفر والإعراض بالختم على قلوبهم والختم بالنار عليهم ، وإذ كفروا بسورة فقد زاد كفرهم فلذلك زيادة رجس إلى رجسهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأما الذين في قلوبهم مرض} يعني الشك في القرآن، وهم المنافقون، {فزادتهم} السورة {رجسا إلى رجسهم} يعني إثما إلى إثمهم، يعني نفاقا مع نفاقهم الذي هم عليه قبل ذلك، {وماتوا وهم كافرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وأما الذين في قلوبهم مرض"، نفاق وشكّ في دين الله، فإن السورة التي أنزلت زادتهم "رجسا إلى رجسهم "وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا، فكان ذلك زيادة شكّ حادثة في تنزيل الله لزمهم الإيمان به عليهم، بل ارتابوا بذلك، فكان ذلك زيادة نتن من أفعالهم إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق، وذلك معنى قوله: "فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا "يعني هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا، "وَهُمْ كافِرُونَ" يعني وهم كافرون بالله وآياته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي تكذيبا وكفرا إلى تكذيبهم الذي كان منهم؛ لأن أهل النفاق والكفر ليسوا هم بأهل إنصاف؛ يقبلون الحجة والدلالة إذا قامت عليهم، إنما همهم العناد والتكذيب ورد الحجج والدلائل فكلما زاد لهم الحجج والبراهين ازدادوا هم عنادا في التكذيب والرد. وأما أهل الإيمان فإن همهم قبول الحجج والإنصاف؛ فكلما ازداد لهم الحجج والبراهين ازدادوا هم إيمانا وتصديقا على ما كان لهم. ثم قوله: (فزادهم إيمانا) زادتهم ثباتا ودواما على ما كانوا من قبل بما قدمت لهم من الحجج والبراهين. وكذلك ازداد لأهل النفاق والكفر بها الثبات على العناد في تكذيب الحجج والآيات...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...وسمي الشك في الدين مرضا، لأنه فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن الذي يحتاج إلى مداواة. ومرض القلب أعضل وعلاجه أعسر ودواؤه أعز واطباؤه أقل. والرجس والنجس واحد. وسمي الكفر رجسا على وجه الذم، وأنه يجب تجنبه كما يجب تجنب الأنجاس.
وقوله "وماتوا وهم كافرون "فيه بيان أن المرض في القلب أداهم إلى أن ماتوا على شر حال، لأنها تسوق إلى النار -نعوذ بالله منها-، وإنما قال "وماتوا" على لفظ الماضي لأنه عطف على قوله "زادتهم رجسا إلى رجسهم" والمعنى أنهم يموتون وهم كافرون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} كفراً مضموماً إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحي كفراً ونفاقاً، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.
ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين، فقال: {وأما الذين في قلوبهم مرض} يعني المنافقين {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة، فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة، فقد انضم كفر إلى كفر، وإن كان الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة. والأمر الثاني: أنهم يموتون على كفرهم، فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى، وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة، وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه..
{وأما الذين في قلوبهم مرض} يدل على أن الروح لها مرض، فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة، وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة، والله أعلم.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون} هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} في ما يعانونه من حالة النفاق الذي يجعلهم يعيشون الاهتزاز النفسي والجمود الروحي، فلا ينفتحون على الإشراق في معاني الآيات القرآنيّة، ولا ينسجمون مع مفاهيمها وأحكامها، بل يتعقدون بدلاً من ذلك ويواجهونها بالسخرية والاستهزاء والجحود والنكران، أمّا هؤلاء {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} لأنهم عندما يواجهونها من مواقع العقدة المستأصلة، فستتآكل نفوسهم في الداخل منها، وتعيش الحقد والعداوة والبغضاء من جديد، وبذلك تزيد حالة الخبث والقذارة الروحية، بالإضافة إلى ما لديهم من خبثٍ وقذارةٍ واستمرار على ذلك، لأنَّهم ليسوا في أجواء التفكير والتغيير...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
- مريض القلب يزداد مرضاً وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن الله في العباد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد (وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً الى رجسهم).
وفي النهاية، فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر: (وماتوا وهم كافرون).
وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها:
ـ إِنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار وجود الأرضية المهيئة والاستعداد للتلقي كشرط أساسي.
إِنّ آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة، فالذين ينظرون إِلى الحقائق بروح التسليم والإِيمان والعشق، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درساً يزيد في إِيمانهم، ويفعّل سمات الإِنسانية لديهم.
أمّا الذين ينظرون إِلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق، فإِنّهم لا يستفيدون منها، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم. وبتعبير أخر فإِنّهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إِلى معاصيهم، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه، ويصرون على رفض كل حقيقة، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم، وبالتالي تتجذّر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم، وفي النهاية إغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.
وبتعبير آخر فإِنّ (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها، بل إِنّ روح التقبل و (قابلية القابل) شرط أساسي أيضاً.
ـ «الرجس» في اللغة بمعنى الخبيث النجس السيئ، وعلى قول الراغب في كتاب المفردات، فإِنّ هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع: فتارةً يُنظر إِليه من جهة الغريزة والطبع، وأُخرى من جهة الفكر والعقل، وثالثة من جهة الشرع، ورابعة من كل الجهات.
ولاشك أنّ السوء والخبث الناشئ من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعاً من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإِنسان وكلامه وسلوكه.
ـ إِنّ جملة (وهم يستبشرون) مع ملاحظة أنّ أصل كلمة (بشارة) تعني السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإِنسان، تبيّن مدى تأثير الآيات القرآنية التربوي في المؤمنين، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فوراً على وجوههم.
ـ لقد اعتبرت هذه الآيات «المرض القلبي» نتيجة حتمية وملازمة للنفاق والصفات القبيحة. وكما قلنا سابقاً فإنّ القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح والعقل، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والانحرافات النفسية، وهذا التعبير يوضح أنّ الإِنسان إِذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر في وجوده لهذه الصفات الذميمة، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي خلاف طبيعة الإِنسان، وعلى هذا فإنّ التلوّث بهذه الصفات دليل على الانحراف عن المسير الأصلي والطبيعي، ودليل على المرض الروحي والنفسي.
ـ إِنّ هذه الآيات تعطي درساً كبيراً لكل المسلمين، لأنّها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من القرآن، ويتربون تربية جديدة تصل إِلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على محياهم، بينما نرى اليوم أشخاصاً، ظاهرهم أنّهم مسلمون، لا تؤثر فيهم السورة إذا قرأوها، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!
هل أنّ سور القرآن فقدت تأثيرها؟ أم أن تسمم الأفكار، ومرض القلوب، ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إِلى خلق حالة عدم الاهتمام، وجعلت على القلوب أكنة لا يمكن اختراقها؟
يجب علينا أن نلتجئ إِلى الله من حالنا هذا، ونسأله أن يمن علينا بقلوب كقلوب المسلمين الأوائل.