مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (125)

ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين ، فقال : { وأما الذين في قلوبهم مرض } يعني المنافقين { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة ، فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك ، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة ، فقد انضم كفر إلى كفر ، وإن كان الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد ، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة .

والأمر الثاني : أنهم يموتون على كفرهم ، فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين ، وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى ، وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة ، وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه . واحتج أصحابنا بقوله : { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه ، قالوا : إنه تعالى كان عالما بأن سماع هذه السورة يورث حصول الحسد والحقد في قلوبهم ، وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم ، أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد ، بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيمانا . فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم .

قلنا : لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان ، بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة . يوجب الكفر . والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه ، يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد ، وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد ، فلا يمكنه إزالتها عن نفسه ، وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير ، والفعل غير ، والخلق غير ، فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون . والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا ، وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب الله تعالى والآخرة ، إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفرا على كفره . فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجسا على رجس ، فكان إنزالها سببا في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر .

بقي في الآية مباحث : الأول : ما في قوله : { وإذا ما أنزلت سورة } صلة مؤكدة . الثاني : الاستبشار استدعاء البشارة ، لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشارة ، فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة . الثالث : قوله : { وأما الذين في قلوبهم مرض } يدل على أن الروح لها مرض ، فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة ، وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة ، والله أعلم .