وقوله - سبحانه - : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } زيادة فى تسلية وتثبيته - صلى الله عليه وسلم - .
أى : أن أمرك - أيها الرسول الكريم - مع هؤلاء الظالمين لا يخلو عن حالين : إما أن نتوفينك قبل أن ترى نقمتنا منهم . . . وفى هذه الحالة فسنتولى نحن عذابهم والانتقام منهم ، حسب إرادتنا ومشيئتنا ، وإما أن نبقى حياتك حتى ترى بعينيك العذاب الذى توعدناهم به ، فإنا عليهم وعلى غيرهم متقدرون على تنفيذ ما نتوعد به من دون أن يستطيع أحد الإِفلات من قبضتنا وقدرتنا .
قال ابن كثير : أى : نحن قادرون على هذا وعلى هذا . ولم يقبض الله - تعالى - رسوله ، حتى أقر عينه من أعدائه ، وحكمه فى نواصيهم ، وملكه ما تضمنته صياصيهم .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب }
ثم قال : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } أي : لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ، ولو ذهبت أنت ، { أَوْ {[26050]} نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ } أي : نحن قادرون على هذا وعلى هذا . ولم يقبض الله رسوله حتى أقر عينه من أعدائه ، وحكمه في نواصيهم ، وملكه ما تضمنته صياصيهم . هذا معنى قول السدي ، واختاره ابن جرير .
وقال ابن جرير{[26051]} حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن{[26052]} ثور ، عن معمر قال : تلا قتادة : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } فقال : ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة ، ولم يُرِ الله{[26053]} نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه ، حتى مضى{[26054]} ، ولم يكن نبي قط إلا ورأى {[26055]} العقوبة في أمته ، إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم . قال : وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرِيَ ما يصيب أمته من بعده ، فما رُئِي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عز وجل . {[26056]}
وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة نحوه . ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا .
وفي الحديث : " النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ ، وأنا أمَنَة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون " . {[26057]}
وقوله : فإمّا نَذْهَبّنَ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الوعيد ، فقال بعضهم : عُنِي به أهل الإسلام من أمة نبينا عليه الصلاة والسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : ثني أبي ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، في قوله : فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ قال : لقد كانت بعد نبيّ الله نقمة شديدة ، فأكرم الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فذهب الله بنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم ير في أمته إلا الذي تقرّ به عينه ، وأبقى الله النقمة بعده ، وليس من نبيّ إلا وقد رأى في أمته العقوبة ، أو قال ما لا يشتهي . ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُري الذي لقيت أمته بعده ، فما زال منقبضا ما انبسط ضاحكا حتى لقي الله تبارك وتعالى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال : ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة ، ولم يُرِ الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ، ولم يكن نبيّ قطّ إلا رأى العقوبة في أمته ، إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم . قال : وذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُري ما يصيب أمته بعده ، فما رُئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله .
وقال آخرون : بل عنى به أهل الشرك من قريش ، وقالوا : قد رأى الله نبيه عليه الصلاة والسلام فيهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ كما انتقمنا من الأمم الماضية أوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعْدْناهُمْ فقد أراه الله ذلك وأظهره عليه وهذا القول الثاني أولى التأويلين في ذلك بالصواب وذلك أن ذلك في سياق خبر الله عن المشركين فلأن يكون ذلك تهديدا لهم أولى من أن يكون وعيدا لمن لم يجر له ذكر . فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك : فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين ، فنخرجَك من بينهم فَإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذّبة رسلها ، أَوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْناهُمْ يا محمد من الظفر بهم ، وإعلائك عليهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أن نظهرك عليهم ، ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك .
وقوله تعالى : { فإما نذهبن بك } الآية تتضمن وعيداً واقعاً ، وذهب جمهور العلماء إلى أن المتوعدين هم الكفار ، وأن الله تعالى أرى نبيه الذي توعدهم في بدر والفتح وغير ذلك ، وذهب الحسن وقتادة إلى أن المتوعدين هم في هذه الأمة ، وأن الله تعالى أكرم نبيه على أن ينتقم منهم بحضرته وفي حياته ، فوقعت النقمة منهم بعد أن ذهب به ، وذلك في الفتن الحادثة في صدر الإسلام مع الخوارج وغيرهم ، قال الحسن وقتادة : أكرم الله نبيه على أن يرى في أمته ما يكره كما رأى الأنبياء ، فكانت بعد ذهابه صلى الله عليه وسلم ، وقد روي حديث عن جابر بن عبد الله أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { فإنا منهم منتقمون } فقال : بعلي بن أبي طالب{[10212]} والقول الأول من توعد الكفار أكثر .
تفريع على جملة { أفأنت تسمع الصم } [ الزخرف : 40 ] إلى آخرها المتضمنة إيماء إلى التأييس من اهتدائهم ، والصريحة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من شدة الحرص في دعوتهم ، فجاء هنا تحقيق وَعد بالانتقام منهم ، ومعناه : الوعد بإظهار الدِين إن كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته ، ووعيدهم بالعقاب في الدّنيا قبل عقاب الآخرة ، فلأجل الوفاء بهذين الغرضين ذُكر في هذه الجملة أمران : الانتقام منهم لا محالة ، وكونُ ذلك واقعاً في حياة الرّسول صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته . والمفرّع هو { فإنا منهم منتقمون } وما ذكر معه ، فمراد منه تحقق ذلك على كل تقدير .
و ( إما ) كلمتان متصلتان أصلهما ( إنْ ) الشرطية و ( مَا ) زائدة بعد ( إنْ ) ، وأدغمت نون ( إنْ ) في الميم من حرف ( مَا ) ، وزيادةُ ( ما ) للتأكيد ، ويكثر اتصال فعل الشرط بعد ( إن ) المزيدة بعدها ( ما ) بنون التوكيد زيادة في التأكيد ، ويكتبونها بهمزة وميم وألف تبعاً لحالة النطق بها .