141- واذكروا إذ أنجاكم اللَّه تعالى بعنايته من آل فرعون الذين كانوا يذيقونكم أشد العذاب ، ويسخرونكم لخدمتهم في مشاق الأعمال ، ولا يرون لكم حرمة كالبهائم ، فيقتلون ما يولد لكم من الذكور ، ويستبقون الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن ، وفيما نزل بكم من تعذيب فرعون لكم وإنجائكم منه ، اختبار عظيم من ربكم ليس وراءه بلاء واختبار .
ثم ذكرهم بما امتن اللّه به عليهم فقال : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي : من فرعون وآله { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي : يوجهون إليكم من العذاب أسوأه ، وهو أنهم كانوا { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ } النجاة من عذابهم { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي : نعمة جليلة ، ومنحة جزيلة ، أو : وفي ذلك العذاب الصادر منهم لكم بلاء من ربكم عليكم عظيم ، فلما ذكرهم موسى ووعظهم انتهوا عن ذلك .
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة إنجائهم من العذاب والتنكيل ، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون ، فقال تعالى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } .
" إذ " بمعنى وقت ، وهى مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى : اذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون . والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث .
وآل الرجل : أهله وخاصته وأتباعه . ويطلق غالباً على أولى الشأن والخطر من الناس ، فلا يقال آل الحجام أو الاسكاف .
و { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } يبغون لكم أشد العذاب وأفضعه من السوم وهو مطلق الذهاب ، أو الذهاب في ابتغاء الشىء . يقال : سامت الابل فهى سائمة ، أى ذهبت إلى المرعى . وسام السلعة ، إذا طلبها وابتغاها .
والسوء - بالضم - كل ما يحزن الإنسان ويغمه من الأمور الدنيوية أو الأخروية . ويستحيون : أى يستبقون . يقال : استحياه أى : استبقاه ، وأصله : طلب له الحياة والبقاء .
والبلاء : الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر .
والمعنى : واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وتشكروا الله على نعمه وقت أن أنجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ، ويستبقون نفوس نسائكم ليستخدموهن ويستذلوهن .
وفى ذلكم العذاب وفى النجاة منه امتحان لكم لتشكروا الله على نعمه ، ولتقعلوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الاذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه هو الآمر بتعذيب بنى إسرائيل ، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له على إذاقتهم سوء العذاب ، وفى إنزال ألوان الأذلال بهم .
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل - مع أنه في ظاهرة نعمة لهم - لأن هذا الابقاء على النساء كان المقصود من الاعتداء على أعراضهن ، واستعمالهن في شتى أنواع الخدمة ، وإذلالهن بالاسترقاق ، فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل ؛ وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة ، والطباع الحرة الأبية .
قال الامام الرازى ما ملخصه : في قتل الذكور دون الإناث مضرة م وجوه : أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال ، وذلك يقضى انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا .
ثانيها : أن هلاك الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة .
فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها الجرال . لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد .
ثالثها : إن قتل الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل الكد ، والرجاء القوى في الانتفاع به من أعظم العذاب . فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة .
رابعاً : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهن ، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات للأعداء . وذلك نهاية الذل والهوان .
وقد رجح كثير من المفسدين أن المراد بالأبناء هنا الأطفال لا البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال ، لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء ، والنساء هن البالغات .
والذى نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الانجاء ، حيث كان آل فرعون يقتلون الصغار قطعاً للنسل ، ويسترقون الأمهات استعباداً لهن ، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد ردت على بنى إسرائيل فيما طلبوا أبلغ رد وأحكمه ، ووصفتهم بما هم أهله من سوء تدبير ، وسفاهة تفكير . فقد بدأت بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، حيث طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلهاً كما لغيرهم آلهة ، ثم ثنت بإظهار فساد ما طلبوه في ذاته ، لأن مصيره إلى الزوال والهلاك ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون إلهاً ، ثم بينت بعد ذلك بأن العبادة لغير الله لا تجوز بأى حال ، لأنه هو وحده صاحب الخلق والأمر ، ثم ذكرتهم في ختامها بوجوه النعم التي أسبغها الله عليهم ، لتشعرهم بأن ما طلبوه من نبيهم ، هو من قبيل مقابلة الاحسان بالجحود والنكران ، ولتحملهم على أن يتدقبروا أمرهم ، ويراجعوا أنفسهم ، ويتوبوا إلى خالقهم توبة صادقة نصوحا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم : واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الاَيات والعبر ، وبعد النعم التي سلفت مني إليكم ، والأيادي التي تقدمت فعلكم ما فعلتم . إذْ أنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه . يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يقول : إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه . وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ما كان العذاب الذي كان يسومهم سيئه . يُقَتّلُونَ أبْناءَكُمْ الذكور من أولادهم ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يقول : يستبقون إناثهم . وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ يقول : وفي سومهم إياكم سوء العذاب ، اختبار من الله لكم وتعمد عظيم .
{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون } واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت . وقرأ ابن عامر " أنجاكم " . { يسومونكم سوء العذاب } استئناف لبيان ما أنجاهم منه ، أو حال من المخاطبين ، أو من آل فرعون أو منهما . { يقتّلون أبناءكم ويستحيُون نساءكم } بدل منه مبين . { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } وفي الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة .
ثم عدد عليهم في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها أن لا يكفروا به ولا يرغبوا عبادة غيره وقرأت فرقة «نجيناكم » ، وقرأ جمهور الناس : «أنجيناكم » وقد تقدم ، وروي عن ابن عباس «وإذا أنجاكم » أي أنجاكم الله وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، و { يسومونكم } معناه يحملونكم ويكلفونكم ، تقول سامه خطة خسف ، ونحو هذا ، ومساومة البيع ينظر إلى هذا وأن كل واحد من المتساومين يكلف صاحبه إرادته ، ثم فسر { سوء العذاب } بقوله : { يقتلون ويستحيون } ، و { بلاء } في هذا الموضع معناه اختبار وامتحان ، وقوله : { ذلكم } إشارة إلى سوء العذاب ، ويحتمل أن يشير به إلى التنجية فكأنه قال : وفي تنجيتكم امتحان لكم واختبار هل يكون منكم وفاء بحسب النعمة .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أظهر ، وقالت فرقة : هذه الآية خاطب بها موسى من حضره من بني إسرائيل ، وقال الطبري : بل خوطب بهذه الآية من كان على عهد محمد صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل بأوائلهم وبما جازوا به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون}، يعني بنى إسرائيل، {يسومونكم سوء العذاب}، يعني يعذبونكم أشد العذاب، {يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم}، يعني قتل الأبناء وترك البنات، {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}، يعني بالعظيم شدة ما نزل بهم من البلاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم: واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر، وبعد النعم التي سلفت مني إليكم، والأيادي التي تقدمت فعلكم ما فعلتم "إذْ أنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ "وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه. "يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ" يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه... "يُقَتّلُونَ أبْناءَكُمْ" الذكور من أولادهم، "وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ" يقول: يستبقون إناثهم. "وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ" يقول: وفي سومهم إياكم سوء العذاب، اختبار من الله لكم وتعمد عظيم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم منْ ءَآلِ فِرْعَوْنَ} قال هذا يذكر بالنعمة {وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن ربِّكُمْ عَظِيمٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ما فعله فرعون بكم من قتل الأبناء واسترقاق النساء بلاء عليكم عظيم، قاله الكلبي. والثاني: أنه ابتلاء لكم واختبار عظيم، قاله الأخفش. والثالث: أن في خلاصكم من ذلك بلاء عظيم، أي نعمة عظيمة، قاله ابن قتيبة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... واذكروا "إذ أنجيناكم "من آل فرعون بمعنى خلصناكم لأن النجاة الخلاص مما يخاف إلى رفعة من الحال، وأصله الارتفاع وقوله تعالى "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم" فالمراد بالبلاء ههنا النعمة وقد يكون بمعنى النقمة، وأصله المحنة، فتارة تكون المحنة بالنعمة، وأخرى بالنقمة، وبالخير تارة وبالشر أخرى.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما ازداد موسى -عليه السلام – في تعديد إنعام الله عليهم، وتنبيهم على عظيم آلائه إلا ازدادوا جحداً، وبُعداً بالقلوب- عن محل العرفان -على بُعْد، وهذه أمارة من بلاه- سبحانه -في السابق بالقطع والرد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... و {يسومونكم} معناه يحملونكم ويكلفونكم، تقول سامه خطة خسف، ونحو هذا، ومساومة البيع ينظر إلى هذا وأن كل واحد من المتساومين يكلف صاحبه إرادته، ثم فسر {سوء العذاب} بقوله: {يقتلون ويستحيون}، و {بلاء} في هذا الموضع معناه اختبار وامتحان، وقوله: {ذلكم} إشارة إلى سوء العذاب، ويحتمل أن يشير به إلى التنجية فكأنه قال: وفي تنجيتكم امتحان لكم واختبار هل يكون منكم وفاء بحسب النعمة.
والتأويل الأول أظهر، وقالت فرقة: هذه الآية خاطب بها موسى من حضره من بني إسرائيل، وقال الطبري: بل خوطب بهذه الآية من كان على عهد محمد صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل بأوائلهم وبما جازوا به.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر وأبين.
اعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه، تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة، فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أثبت أن الإلهية لا تصلح لغيره، وأن غيره لم يكن يقدر على تفضيلهم، وكان المقام للعظمة، وكان كأنه قيل إيذاناً بغلظ أكبادهم وقله فطنتهم وسوء مقابلتهم للمنعم: اذكروا ذلك، أي تفضيله لكم باصطفاء آبائكم إبراهيم ولما كان السياق -كما مضى- لبيان إسراعهم في الكفر وشدة عساوتهم في قسوتهم وجلافتهم، وكان مقصود السورة إنذار المعرضين وتحذيرهم من القوارع التي أحلها بالماضين، بين سوء العذاب عادلاً في بيانه عن التذبيح -لأنه لا يكون عند الانذباح، وهو في الأصل لمطلق الشق- إلى التعبير بالقتل لأنه أدل على الإماتة وأهز، لأنه قد يكون على هيئة شديدة بشعة كالتقطيع والنخس والخبط وغير ذلك مع أنه لا بد فيه من تفويت ذلك فقال: {يقتلون} أي تقتيلاً كثيراً -{أبناءكم} ودل على حقيقة القتل بقوله: {ويستحيون}. ولما كان المعنى أنهم لا يعرضون للإناث صغاراً ولا كباراً، وكان إنكار ما يكون إبقاء النساء بلا رجال لما يخشى من الضياع والعار، وكان مظنة العار أكبر- عبر عنهن بقولة: {نساءكم} وتنبيهاً على أن قتل الأبناء إنما هو للخوف من صيرورتهم رجالاً لئلا يسلبهم واحد منهم أعلمهم به كهانهم ملكهم؛ وأشار إلى شدة ذلك بقوله: {وفي ذلكم} أي الأمر الصعب المهول {بلاء} أي اختبار لكم ولهم {من ربكم} أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء، فانه أخفى عنهم الذي قصدوا القتل لأجله، وأنقذكم به بعد أن رباه عند الذي هو مجتهد في ذبحه {عظيم}. وإسحاق ويعقوب وما تقدم له عندهم وعند أولادهم من النعم لا سيما يوسف عليه السلام الذي حكمه في جميع الأرض التي استذلكم أهلها؛ عطف عليه إشارة إليه قوله التفاتاً إلى مظهر العظمة تذكيراً بعظمة مدخوله: {وإذ} أي واذكروا إذ {أنجيناكم} أي على ما نحن عليه من العظمة التي أنتم لها عارفون، ولها في -كل وقت في تلك الآيات مشاهدون {من آل فرعون} وما أفضنا عليكم بعد الإنجاء من النعم الجسام وأريناكم من الآيات العظام تعرفوا أنا فضلناكم على جميع الأنام، ثم استأنف بيان ما أنجاهم منه بقوله: {يسومونكم} أي ينزلون بكم دائماً {سوء العذاب}.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تنبيه: قال الجشمي: تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر، وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والدليل على أن المراد بتفضيلهم على العالمين ما ذكرنا أنه عطف عليه أعظم مظاهره الحديثة العهد بقوله: {وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم} قرأ ابن عامر (وإذ نجاكم) على أنه من مقول موسى عليه السلام قطعا والباقون (أنجيناكم) وذكروا فيه احتمالين:
أحدهما: وهو الأظهر والمتبادر أن يكون مسندا إلى الله تعالى متمما لكلام موسى ومبينا للمراد منه على طريقة الالتفات عن الحكاية عنه، ولهذا الالتفات نظائر في التنزيل وفي كلام بلغاء العرب، ومنه قوله تعالى في قصة موسى من سورة طه {الّذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السّماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتّى} [طه: 20] الخ فأول الآية من قول موسى في جواب فرعون وقوله "فأخرجنا "التفات عن الحكاية وانتقال إلى كلامه تعالى عن نفسه، خاطب به من أنزل إليهم هذا الوحي من خلقه، تنبيها لهم بتلوين الكلام، وبما في مخاطبة الرب لهم كفاحا من التأثير الخاص، إلى كونه هو المسدي لهذا الإنعام. واقتصر بعض المفسرين على أن المخاطب بهذه القراءة من كان من بني إسرائيل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأفادت قراءة ابن عامر أن موسى قالها لقومه في ذلك الوقت، وأفادت قراءة الآخرين أن محمدا صلى الله عليه وسلم ذكر بها قوم موسى في زمنه كما تقدم في سورة البقرة وهذه فائدة الجمع بين القراءتين وهي من إعجاز إيجاز القرآن.
الثاني: أن قراءة الالتفات من جملة الحكاية عن موسى عليه السلام أسند الإنجاء فيها إلى الله تعالى مع حذف القول للعلم به من القرينة أو بدونه أو إلى نفسه وحده أو مع أخيه للإشارة إلى جعله تعالى هذا الإنجاء بسبب رسالتهما وتأييده تعالى لهما بتلك الآيات.
والمعنى واذكروا إذا أنجاكم الله تعالى بفضله –أو إذا أنجيناكم بإرساله تعالى إيانا لأجل ذلك ومما أيدنا به من الآيات –من آل فرعون حال كونهم يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم كالبهائم فلا يعدونكم منهم، وخص بالذكر من هذا العذاب شر أنواعه بقوله: يقتلون ما يولد لكم من الذكور –ويستبقون نساءكم بترك الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن- وهذا بدل بعض من كل. وفي ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الرب الواحد عليكم وتفضيله إياكم على أولئك العالين في الأرض وعلى غيرهم كسكان البلاد المقدسة التي سترثونها بلاء عظيم، أي اختبار لكم من ربكم المنفرد بتربيتكم، وتدبير أموركم ليس وراءه بلاء واختبار، فإن أجدر الناس بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان، من يعطى النعمة بعد النقمة، وأحق الناس بمعرفة وحدانية الله تعالى وإخلاص العبادة له من يرى من آياته في نفسه وفي الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون لغيره شركة فيه، أي فكيف تطلبون بعد هذا كله ممن رأيتم هذه الآيات على يده وليس لها فيها أقل تأثير أن يجعل لكم إلها من أخس المخلوقات تجعلونه واسطة بينكم وبين الله تعالى وهو قد فضلكم عليها وعلى عابديها ومن هم أرقى منهم؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل -في هذا الموضع- كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم. ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر.. والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة.. ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة. الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء.. (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم).. فما كان شيء من ذلك كله جزافا بلا تقدير. ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير. وللتمحيص والتدريب. وللإعذار قبل الأخذ الشديد. إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهو دال على استنكار موسى بسبب ما أعطاهم الله من نعم لم ينعم بها أحدا من العالمين، وهي آية عظيمة من آيات رب العالمين تدل على كمال توحيده، وأنه المتفرد بالإيجاد والخلق والتدبير، فقال: {وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب}، أ ي اذكروا نعمة الله عليكم، وآياته فيكم، إذ نجاكم من آل فرعون وذكر آل فرعون؛ لأن آل فرعون وحاشيته هم المعاونون المحسنون لما ارتكب من طغيان وظلم، والذين يسولون له كل ظلم، ويبررون ما يفعل من شر، وذكرهم ذكر له لأنه رأس الفساد، وغيره تابع له محسن، ومسول وهم كالشياطين حوله يشاركونه في الإثم، ولا يعفى منه. {يسومونكم}، أي يذيقونكم سوء العذاب، ثم بينه سبحانه بقوله:
{يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}.
أي ويل شديد اختبرتم به أشد اختبار، فهل تكفرون بالله تعالى الذي نجاكم، وتشركون به.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هل فكرتم في هذه النعمة العظيمة، وهي نعمة الحرية التي عدتم بها أحراراً، تملكون تفكيركم وإرادتكم وحركتكم في الحياة بعد أن كنتم عبيداً لآل فرعون يمارسون ضدكم كل ألوان العذاب القاسي...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يقول في البداية: تذكَّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائماً (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب).
و«يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل كما قال «الراغب» في «المفردات» الذهاب في طلب شيء، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضاً، وعلى هذا يكون معنى (يسومونكم سوء العذاب) أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.
ثمّ تمشياً مع أسلوب القرآن في بيان الأُمور بتفصيل بعد إجمال شرح هذا العذاب المستمر، وهو: قتل الأبناء، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق (يقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم).
وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم (وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم).
وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسى (عليه السلام) عن الله لنبي إسرائيل عندما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.
صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال: إن الآية كانت في الأصل هكذا: قال موسى: قال ربّكم... وهذا خلاف الظاهر.
ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.