ثم ختم - سبحانه - هذه النعم التى منحها لخليله إبراهيم ، بأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم - عليه السلام - فقال - تعالى - : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .
والمراد بملة إبراهيم : شريعته التي أمره الله - تعالى - باتباعها في عقيدته وعبادته ومعاملاته ، وهي شريعة الإِسلام ، التي عبر عنها آنفا بالصراط المستقيم في قوله - تعالى - : { اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
والمراد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم له في ذلك : الاقتداء به في التوحيد وفي أصول الدين ، الثابتة في كل الشرائع ، لا الفروع الشرعية التي تختلف من شريعة إلى أخرى ، بحسب المصالح التي يريدها الله - تعالى - لعباده .
أي : ثم أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم - بأن تتبع في عقيدتك وشريعتك { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } ، أي : شريعته التي هي شريعة الإِسلام .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ . . } : في " ثم " هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإِيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة ، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لملته ، من جهة أنها دلت على تباعد هذا النعت فى المرتبة ، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .
وقال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدي إلى الصواب ، ولا درك على الفاضل في هذا ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، وقد أمر بالاقتداء بهم ، قال - تعالى - : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده . . } وقال - سبحانه - هنا : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً . . } .
وقوله : { حنيفا } ، حال من إبراهيم ، أي : من المضاف إليه ، وصح ذلك ؛ لأن المضاف هنا وهو { ملة } ، كالجزء من المضاف إليه وهو إبراهيم من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول ؛ لأن قولك : أن اتبع إبراهيم حنيفا كلام تام . .
وقد أشار ابن مالك - رحمه الله - إلى هذا المعنى بقوله :
ولا تجز حالا من المضاف له . . . إلا إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ماله أضيفا . . . أو مثل جزئه فلا تحيفا
وقوله - سبحانه - : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } ، تنزيه لإِبراهيم - عليه السلام - عن أي لون من ألوان الإِشراك بالله - تعالى - .
أي : وما كان إبراهيم - عليه السلام - من المشركين مع الله - تعالى - آلهة أخرى لا في عقيدته ولا في عبادته ولا في أي شأن من شئونه .
وفي ذلك رد على المشركين الذين زعموا أنهم على ملة ابراهيم ، ورد - أيضا - على اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم - عليه السلام - كان على ملتهم .
قال - تعالى - : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .
وقوله : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } ، أي : ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه ، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء : { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، كما قال : في " الأنعام " : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] ، ثم قال تعالى منكرا على اليهود .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 123 ) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 124 ) .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم أوحينا إليك يا محمد وقلنا لك : اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة ، ( حَنِيفًا ) يقول : مسلما على الدين الذي كان عليه إبراهيم ، بريئًا من الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك ، كما كان إبراهيم تبرأ منها .
{ ثم أوحينا إليك } يا محمد ، و{ ثم } إما لتعظيمه والتنبيه على أن أجلّ ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ملته ، أو لتراخي أيامه . { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } في التوحيد والدعوة إليه بالرفق ، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى ، والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه ، { وما كان من المشركين } ، بل كان قدوة الموحدين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.