فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (123)

{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 123 ) .

وحاصل ما ذكر من الصفات هنا تسعة بل عشرة إذ قوله سبحانه : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد ، مع علو درجتك وسمو منزلتك وكونك سيد ولد آدم يرجع لوصف إبراهيم وتعظيمه بأن محمدا أمر باتباعه ، { أَنِ } مفسرة أو مصدرية ، { اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } ، أي : دينه ، وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبي من أنبيائه ، من أمللت الكتاب إذا أمليته وهو الدين بعينه ، لكن باعتبار الطاعة له وتحقيق ذلك أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ، ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى دينا .

قال الراغب : الفرق بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي ، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمة ، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ، والمراد بملته الإسلام الذي عبر عنه آنفا بالصراط المستقيم .

وقيل : والمراد اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في التوحيد والدعوة إليه ، وقال ابن جرير : في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام ، وقيل : في مناسك الحج ، وقيل : في الأصول دون الفروع . وقال أبو السعود : في الأصول والعقائد وأكثر الفروع دون الشرائع المتبدلة بتبدل الأعصار انتهى . وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ ، وهذا هو الظاهر .

وفي الكرخي : إنما جاز اتباع الأفضل للمفضول لسبقه إلى القول والعمل به ، قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدي إلى الصواب ولا درك على الفاضل في ذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام ، وقد أمر بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم فقال تعالى : { فبهداهم اقتده } .

{ حَنِيفًا } ، حال من إبراهيم ، وجاز مجيء الحال منه ؛ لأن الملة كالجزاء منه ، وقد تقرر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز ؛ إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه أو كان جزء أو كالجزء من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول ، إذ يصح أن يقال أن اتبع إبراهيم حنيفا .

{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها ، أي : كرر ردا على زعم المشركين أنهم على دينه .