اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (123)

قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } الآية .

لما وصف إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - بهذه الصِّفات العالية الشريفة ، قال - جل ذكره - : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } . قال الزمخشري في " ثُمَّ " هذه : إنها تدلُّ على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله ، والإيذان بأن الشَّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامةِ ، وأجل ما أولي من النِّعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملَّته ، من قبل أنَّها دلت على تباعد هذا النَّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله - سبحانه وتعالى - عليه بها .

قوله تعالى : { أَنِ اتبع } ، يجوز أن تكون المفسرة ، وأن تكون المصدرية ، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء .

قوله تعالى : " حَنِيفاً " حال ، وتقدم تحقيقه في البقرة [ الآية : 135 ] .

وقال ابن عطية{[20135]} : قال مكِّي : ولا يكون - يعني : " حَنِيفاً " - حالاً من " إبْراهِيمَ " عليه السلام ؛ لأنه مضاف إليه .

وليس كما قال ؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرِّ ، إذا عملت في ذي الحال ؛ كقولك : مَرَرْتُ بهِ قَائِماً .

وما ذكره مكِّي من امتناع الحال من المضاف إليه ، فليس على إطلاقه ؛ كما تقدم تفصيله في البقرة .

وأما قول ابن عطية{[20136]} - رحمه الله- : إن العامل الخافض ، فليس كذلك ؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض ، وكذلك إذا حذف الخافض ، نصب مخفوضه .

فصل

قال قوم : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - وليس له شرعٌ معيَّن ، بل المقصود من بعثته : إحياء [ شرع ]{[20137]} إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، وهذا ضعيف ؛ لأنه - تعالى - وصف إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : { أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } ، كان المراد ذلك .

فإن قيل : النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد ؛ بناء على الدَّلائلِ القطعية ، وإذا كان كذلك ، لم يكن متابعاً له ، فيمتنع حمل قوله : " أن اتَّبعْ " على هذا المعنى ؛ فوجب حمله على الشَّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها .

فالجواب : أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيَّة الدَّعوة إلى التوحيد ؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق ، والسهولة ، وإيراد الدلائل مرَّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن .

قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ؛ لما يؤدِّي إلى الثواب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقد أمر بالاقتداء بهم ؛ فقال - تعالى - : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، وقال - تعالى - هنا : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } .


[20135]:ينظر: المحرر الوجيز 3/431.
[20136]:ينظر: المحرر الوجيز 3/431.
[20137]:في ب: ملة.