{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } أي : الرؤساء والأشراف الذين تكبروا عن الحق ، { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } ولما كان المستضعفون ليسوا كلهم مؤمنين ، قالوا { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ } أي : أهو صادق أم كاذب ؟ .
فقال المستضعفون : { إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } من توحيد اللّه والخبر عنه وأمره ونهيه .
لقد كان موقفهم لا يقل في القبح والتطاول والعناد عن موقف قوم نوح وقوم هود ، وهاك ما حكاه القرآن عنهم :
{ قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ } ؟
أى : قال المترفون المتكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين الذين هداهم الله إلى الحق : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه إليكم لعبادته وحده لا شريك له ؟
وهو سؤال قصد المترفون منه تهديد المؤمنين والاستهزاء بهم ، لأنهم يعلمون أن المؤمنين يعرفون ان صالحا مرسل من ربه .
ولذا وجدنا المؤمنين لا يردون عليهم بما يقتضيه ظاهر السؤال بأن يقولوا لهم : نعم أنه مرسل من ربه ، وإنما ردوا عليهم بقوله : { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } ، مسارعة منهم إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإظهاراً للإيمان الذي استقر في قلوبهم ، وتنبيها على أن أمر إرسال صالح - عليه السلام - من الظهور والوضوح حيث لا ينبغى لعاقل أن يسأل عنه ، وإنما الشىء الجدير بالسؤال عنه هو الإيمان بما جاء به هذا الرسول الكريم ، والامتثال لما يقتضيه العقل السليم .
وهو رد من المؤمنين المستضعفين يدل على شجاعتهم في الجهر بالحق وعلى قوة إيمانهم ، وسلامة يقينهم .
وقوله : { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بدل من { لِلَّذِينَ استضعفوا } بإعادة الجار بدل كل من كل ، والضمير في { مِنْهُمْ } يعود على قوم صالح .
وهنا كذلك نلمح فجوة في السياق على سبيل الإيجاز والاختصار . فقد آمنت طائفة من قوم صالح ، واستكبرت طائفة . والملأ هم آخر من يؤمن بدعوة تجردهم من السلطان في الأرض ، وترده إلى إله واحد هو رب العالمين ! ولا بد أن يحاولوا فتنة المؤمنين الذين خلعوا ربقة الطاغوت من أعناقهم بعبوديتهم لله وحده ، وتحرروا بذلك من العبودية للعبيد !
وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من أمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد :
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ ) . .
وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف ، ولاستنكار إيمانهم به ، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه .
ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافاً ! لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم ، والثقة في نفوسهم ، والاطمئنان في منطقهم . . إنهم على يقين من أمرهم ، فماذا يجدي التهديد والتخويف ؟ وماذا تجدي السخرية والاستنكار . . من الملأ المستكبرين ؟ :
وتقدم القول في { الملأ } ، وقرأ ابن عامر وحده في هذا الموضع «وقال الملأ » بواو عطف وهي محذوفة عند الجميع ، و { الذين استكبروا } هم الأشراف والعظماء الكفرة ، و { استكبروا } يحتمل أن يكون معناه طلبوا هيئة لنفوسهم من الكبر ، أو يكون بمعنى كبروا كبرهم المال والجاه وأعظمهم فيكون على هذا كبر و «استكبر » بمعنى كعجب واستعجب ، والأول هو باب استفعل كاستوقد واسترفد ، والذين استضعفوا هم العامة والأغفال في الدنيا وهم أتباع الرسل ، وقولهم { أتعلمون } استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف ، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله .
عَدَل الملأُ الّذين استكبروا عن مجادلة صالح عليه السّلام إلى اختبار تصلّب الذين آمنوا به في إيمانهم ، ومحاولة إلقاء الشكّ في نفوسهم ، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصوداً به إفساد دعوة صالح عليه السلام كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح عليه السّلام ، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصْل جُمل حكاية المحاورات ، كما قدّمناه غير مرّة آنفاً وفيما مضى .
ووَصْفُهم بالذين استكبروا هنا لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم إياهم . وللتّنبيه على أنّ الذين آمنوا بما جاءهم به صالح عليه السلام هم ضعفاء قومه .
واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصففِ الآخرين بالذين استضعفوا لما تُومىء إليه الصّلة من وجه صدور هذا الكلام منهم ، أي أن اسكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيئهم ، وأنّ احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يُسغ عندهم سبقَهم إياهم إلى الخير والهدى ، كما حكى عن قوم نوح قولهم : { وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا باديَ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل } [ هود : 27 ] وكما حكى عن كفّار قريش بقوله : { وقال الذين كفروا للّذين آمنوا لو كان خيراً مَا سبقونا إليه وإذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } [ الأحقاف : 11 ] ، ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود .
والذين استُضعفوا هم عامّة النّاس الذين أذلّهم عظماؤهم واستعبدوهم لأنّ زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السّيادة الدّنيوية الخلية عن خلال الفضيلة ، من العَدل والرأفة وحبّ الإصلاح ، فلذلك وصف الملأُ بالّذين استكبروا ، وأطلق على العامة وصف الذين استُضعفوا .
واللاّم في قوله : { للذين استضعفوا } لتعدية فعل القول .
وقوله : { لمن آمن منهم } بدل من { للذين استضعفوا } بإعادة حرف الجرّ الذي جرّ بمثله المبدل منه .
والاستفهام في { أتعلمون } للتشكيك والإنكار ، أي : ما نظنّكم آمنتم بصالححٍ عليه السّلام عن علم بصدقه ، ولكنّكم اتَّبعتموه عن عمى وضلال غير موقنين ، كما قال قوم نوح عليه السّلام : { وما نَراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي } [ هود : 27 ] وفي ذلك شَوب من الاستهزاء .
وقد جيء في جواب { الذين استضعفوا } بالجملة الاسميّة للدّلالة على أنّ الإيمان متمكّن منهم بمَزيد الثّبات ، فلم يتركوا للذين استكبروا مطمعاً في تشكيكهم ، بلْه صرفهم عن الإيمان برسولهم .
وأكّد الخبر بحرف ( إنّ ) لإزالة ما توهّموه من شكّ الذين استكبروا في صحّة إيمانهم ، والعدول في حكاية جواب الذين استضعفوا عن أن يكون بنعم إلى أن يكون بالموصول صلته لأن الصلة تتضمن إدماجاً بتصديقهم بما جاء به صالح من نحو التوحيد وإثبات البعث ، والدلالة على تمكنهم من الإيمان بذلك كله بما تفيده الجملة الاسمية من الثبات والدوام وهذا من بليغ الايجاز المناسب لكون نسج هذه الجملة من حكاية القرآن لا من المحكي من كلامهم إذ لا يظن أن كلامهم بلغ من البلاغة هذا المبلغ ، وليس هو من الأسلوب الحكيم كما فهمه بعض المتأخرين .