{ 61 - 63 } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }
هذا استدلال على المشركين المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة ، وإلزام لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية ، فأنت لو سألتهم من خلق السماوات والأرض ، ومن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، ومن بيده تدبير جميع الأشياء ؟ { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وحده ، ولَاعْتَرَفُوا بعجز الأوثان ومن عبدوه مع اللّه على شيء من ذلك .
فاعجب لإفكهم وكذبهم ، وعدولهم إلى من أقروا بعجزه ، وأنه لا يستحق أن يدبر شيئا ، وسَجِّلْ عليهم بعدم العقل ، وأنهم السفهاء ، ضعفاء الأحلام ، فهل تجد أضعف عقلا ، وأقل بصيرة ، ممن أتى إلى حجر ، أو قبر ونحوه ، وهو يدري أنه لا ينفع ولا يضر ، ولا يخلق ولا يرزق ، ثم صرف له خالص الإخلاص ، وصافي العبودية ، وأشركه مع الرب ، الخالق الرازق ، النافع الضار .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان ما عليه المشركون من تناقض فى أفكارهم وفى تصوراتهم ، وبببيان حال هذه الحياة الدنيا . وببيان جانب من النعم التى أنعم بها على أهل مكة ، وببيان ما أعده للمجاهدين فى سبيله من ثواب ، فقال - تعالى - : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ . . . لَمَعَ المحسنين } .
وقوله - سبحانه - : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله . . . } بيان لما كان عليه مشركو العرب من اعتراف بأن المستقبل بخلق هذا الكون هو الله - تعالى - .
أى : ولئن سألت - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المشركين ، من الذى أوجد هذه السماوات وهذه الأرض ، ومن الذى ذلل وسخر لمنفعتكم الشمس والقمر ، ليقولن بدون تردد : الله - تعالى - هو الذى فعل ذلك بقدرته .
وقوله - سبحانه - : { فأنى يُؤْفَكُونَ } تعجيب من تناقضهم فى أفعالهم ، ومن انحراف فى تفكيرهم ، ومن تركهم العمل بموجب ما تقتضيه أقوالهم .
أى : إذا كنتم معترفين بأن الله وحده هو الخالق للسموات والأرض . المسخر للشمس والقمر ، فلماذا أشركتم معه فى العبادة آلهة آخرى ؟ ولماذا تنصرفون عن الإِقرار بوحدانيته - عز وجل - ؟
وبعد هذه الجولة مع المؤمنين يرتد السياق إلى التناقض في موقف المشركين وتصوراتهم . فهم يقرون بخلق الله للسماوات والأرض وتسخيره للشمس والقمر وإنزاله الماء من السماء وإحيائه الأرض بعد موتها . وما يتضمنه هذا من بسط الرزق لهم أو تضييقه عليهم . وهم يتوجهون لله وحده بالدعاء عند الخوف . . ثم هم بعد ذلك كله يشركون بالله ، ويؤذون من يعبدونه وحده ، ويفتنونهم عن عقيدتهم التي لا تناقض فيها ولا اضطراب ، وينسون نعمة الله عليهم في تأمينهم في البيت الحرام ، وهم يروعون عباده في بيته الحرام :
ولئن سألتهم : من خلق السماوات والأرض ، وسخر الشمس والقمر ليقولن : الله . فأنى يؤفكون ? الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ، إن الله بكل شيء عليم . ولئن سألتهم : من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن : الله . قل : الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعقلون . وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، لو كانوا يعلمون . فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين . فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون . أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ? ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ? أليس في جهنم مثوى للكافرين ? . .
وهذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب إذ ذاك ؛ وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد ؛ ثم وقع فيها الانحراف . ولا عجب في هذا فهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس ؛ ولم يكونوا يحفلون كثيرا بالديانة الموسوية أو المسيحية وهما معهم في الجزيرة العربية ، اعتزازا منهم بأنهم على دين إبراهيم . غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف .
كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات والأرض ، ومسخر الشمس والقمر ، ومنزل الماء من السماء ، ومحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء . . يقرون أن صانع هذا كله هو الله . ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم ، أو يعبدون الجن ، أو يعبدون الملائكة ؛ ويجعلونهم شركاء لله في العبادة ، وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق . . هو تناقض عجيب . تناقض يعجب الله منه في هذه الآيات : ( فأنى يؤفكون ? )أي كيف يصرفون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب ? ( بل أكثرهم لا يعقلون )فليس يعقل من يقبل عقله هذا التخليط !
وبين السؤال عن خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر ؛ والسؤال عن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها . يقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له فيربط سنة الرزق بخلق السماوات والأرض وسائر آثار القدرة والخلق ، ويكل هذا إلى علم الله بكل شيء : إن الله بكل شيء عليم . .
والرزق ظاهر الارتباط بدورة الأفلاك ، وعلاقتها بالحياة والماء والزرع والإنبات . وبسط الرزق وتضييقه بيد الله ؛ وفق الأوضاع والظواهر العامة المذكورة في الآيات . فموارد الرزق من ماء ينزل ، وأنهار تجري ، وزروع تنبت ، وحيوان يتكاثر . ومن معادن وفلزات في جوف الأرض ، وصيد في البر والبحر . . إلى نهاية موارد الرزق العامة ، تتبع كلها نواميس السماوات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر تبعية مباشرة ظاهرة . ولو تغيرت تلك النواميس عما هي عليه أدنى تغيير لظهر أثر هذا في الحياة كلها على سطح الأرض ؛ وفي المخبوء فيها من الثروات الطبيعية الأخرى سواء بسواء . فحتى هذا المخبوء في جوف الأرض ؛ إنما يتم تكوينه وتخزينه واختلافه من مكان إلى مكان وفق أسباب من طبيعة الأرض ومن مجموعة تأثراتها بالشمس والقمر !
والقرآن يجعل الكون الكبير ومشاهده العظيمة هي برهانه وحجته ، وهي مجال النظر والتدبر للحق الذي جاء به . ويقف القلب أمام هذا الكون وقفة المتفكر المتدبر ، اليقظ لعجائبه ، الشاعر بيد الصانع وقدرته ، المدرك لنواميسه الهائلة ، بلفتة هادئة يسيرة ، لا تحتاج إلى علم شاق عسير ، إنما تحتاج إلى حس يقظ وقلب بصير . وكلما جلا آية من آيات الله في الكون وقف أمامها يسبح بحمد الله ويربط القلوب بالله : ( قل الحمد لله . بل أكثرهم لا يعقلون ! ) .
يقول تعالى مقررا{[22689]} أنه لا إله إلا هو ؛ لأن المشركين - الذين يعبدون معه غيره - معترفون أنه{[22690]} المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر ، وتسخير الليل والنهار ، وأنه الخالق الرازق لعباده ، ومقدر آجالهم ، واختلافها واختلاف أرزاقهم ففاوت بينهم ، فمنهم الغني والفقير ، وهو العليم بما يصلح كُلا منهم ، ومَنْ يستحق الغنى ممن يستحق الفقر ، فذكر أنه المستبدُّ بخلق الأشياء{[22691]} المتفرد بتدبيرها ، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته ، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية . وقد كان المشركون يعترفون بذلك ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " .