{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي : هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء ، لما اشتمل عليه من المطالب العالية ، والأوامر الحسنة ، وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها ، ودفع مفاسدها ، لصدوره من ربك ، الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس ، وجميع المصالح .
{ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه ، بل تفكَّر فيه وتأمل ، حتى تصل بذلك إلى اليقين ، لأن التفكر فيه لا محالة ، دافع للشك ، موصل لليقين .
ثم ثبت الله تعالى نبيه صلى الله عليه ولام المؤمنين ، فأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا شك فيه .
أي : اعلم - يا محمد - أن ما أوحي إليك وأمرت به من التوجه إلى المسجد الحرام . هو الحق الذي جاءك من ربك ، وأن ما يقوله اليهود وغيرهم من المشركين هو الباطل الذي لا شك فيه ، فلا تكونن من الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم به ، أو في الحق الذي جاءك من ربك وهو ما أنت عليه في جميع أحوالك ومن بينها التوجه إلى المسجد الحرام .
والشك غير متوقع من الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك قال المفسرون إن النهي موجه إلى الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم إذ كان فيها حديثو عهد بكفر بخشى عليهم أن يفتنوا بزخرف من القول يروج به أهل الكتاب شبهاً تعلق بأذهان من لم يرسخ الإِيمان في قلوبهم .
وقد وضح ابن جرير - رحمه الله - هذا المعنى بقوله :
فإن قال لنا قائل : " أو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاص في أن الحق من ربه أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله - تعالى - حتى نهى عن شك في ذلك فقيل له : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } .
قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به ، والمراد به غيره كما قال جل ثناؤه :
{ ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } ثم قال { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له . والمراد به أصحابه المؤمنون به .
وهنا يوجه الخطاب إلى النبي [ ص ] بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب :
( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) . .
ورسول الله [ ص ] ما امترى يوما ولا شك . وحينما قال له ربه في آية أخرى : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك . . قال : " لا أشك ولا أسأل " . .
ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه [ ص ] يحمل إيحاء قويا إلى من وراءه من المسلمين . سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم ، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم .
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير ؛ ونحن - في بلاهة منقطعة النظير - نروح نستفتي المستشرقين - من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار - في أمر ديننا ، ونتلقى عنهم تاريخنا ، ونأمنهم على القول في تراثنا ، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ، وسيرة أوائلنا ؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام ، ويتخرجون في جامعاتهم ، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير .
إن هذا القرآن قرآننا . قرآن الأمة المسلمة . وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره . وأهل الكتاب هم أهل الكتاب ، والكفار هم الكفار . والدين هو الدين !
{ الحق من ربك } كلام مستأنف ، والحق إما مبتدأ خبره من ربك واللام للعهد ، والإشارة إلى ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو الحق الذي يكتمونه ، أو للجنس . والمعنى أن { الحق } ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبره مبتدأ محذوف أي هو { الحق } ومن ربك حال ، أو خبر بعد خبر . وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو مفعول { يعلمون } { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في أنه من ربك ، أو في كتمانهم الحق عالمين به ، وليس المراد به نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه ، لأنه غير متوقع منه وليس بقصد واختيار ، بل إما تحقيق الأمر وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 147 )
وقوله تعالى : { الحق من ربك } ، { الحقُّ } رفع على إضمار الابتداء والتقدير هو الحق ، ويصح أن يكون ابتداء والخبر مقدر بعده( {[1398]} ) ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه { الحقَّ } بالنصب ، على أن العامل فيه { يعلمون } ، ويصح نصبه على تقدير : الزم الحق .
وقوله تعالى : { فلا تكونن من الممترين } ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وامترى في الشيء إذا شك فيه ، ومنه المراء لأن هذا يشك في قول هذا ، وأنشد الطبري - شاهداً على أن الممترين الشاكون- قول الأعشى : [ المتقارب ]
تدر على اسؤق الممترين . . . ركضاً إذا ما السراب ارجحن( {[1399]} )
ووهم في ذلك لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يْمرون الخيل بأرجلهم همزاً لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها( {[1400]} ) ، فليس في البيت معنى من الشك كما قال الطبري( {[1401]} ) .