البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (147)

الامتراء : افتعال من المرية ، وهي الشك .

امترى في الشيء : شك فيه ، ومنه المراء .

ماريته أي جادلته وشاككته فيما يدعيه .

وافتعل : بمعنى تفاعل .

تقول : تمارينا وامترينا فيه ، كقولك : تحاورنا واحتورنا .

{ الحق من ربك } : قرأ الجمهور : برفع الحق على أنه مبتدأ ، والخبر هو من ربك ، فيكون المجرور في موضع رفع .

أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق من ربك ، والضمير عائد على الحق المكتوم ، أي ما كتموه هو الحق من ربك ، ويكون المجرور في موضع الحال ، أو خبراً بعد خبر .

وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه .

والألف واللام في الحق للعهد ، وهو الحق الذي عليه الرسول ، أو الحق الذي كتموه ، أو للجنس على معنى : أن الحق هو من الله ، لا من غيره ، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله ، كالذي عليه الرسول ، وما لم تثبت حقيقته ، فليس من الله ، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب .

وقرأ علي بن أبي طالب : الحق بالنصب ، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم ، فيكون التقدير : يكتمون الحق من ربك ، قاله الزمخشري ؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء***

أي يسبقه شيء .

وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : { فلا تكونن من الممترين } .

والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة .

ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل .

فقولك : لا تكن ظالماً ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم .

وقولك : لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة .

والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة .

والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة .

وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموماً ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون .

قال تعالى : { فلا تكوننّ من الجاهلين } { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } { فلا تكن في مرية منه } والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي .

والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان .

وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة .

والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك .