وقوله : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً . . . } وعيد لهم بسوء مصيرهم ، وإخبار عن عاجل أمرهم وآجله ، من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الآخرة .
والمعنى : إنهم وإن فروا وضحكوا طوال أعمارهم في الدنيا ، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والمنقطع الفانى قليل بالنسبة إلى الدائم الباقى .
قال صاحب المنار : وفى معنى الآية قوله - صلى الله عليه وسلم " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " متفق عليه ، بل رواه الجماعة إلا أبا داود من حديث أنس ، ورواه الحاكم من حديث أبى هريرة بلفظ " لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا " .
ثم قال : وإنما كان الأمر في الآية بمعنى الخبر ، لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف وقد قيل في فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإِنشاء ، إنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته في احتمالها ، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإِيجاب وهو حتم . .
وقوله : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } تذييل قصد به بيان عدالته ، سبحانه ، في معاملة عباده .
أى : أننا ما ظلمناهم بتوعدنا لهم بالضحك القليل وبالبكاء الكثير ، وإنما هذا الوعيد جزاء لهم على ما اكتسبوه من فنون المعاصى ، وما اجترحوه من محاربة دائمة لدعوة الحق .
وقوله : { جَزَآءً } مفعول للفعل الثانى .
أى : ليبكوا جزاء ، ويجوز أن يكون مصدرا حذف ناصبه . أى : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء .
وجمع - سبحانه - في قوله { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بين صيغتى الماضى والمستقبل ، للدلالة على الاستمرار التجددى ما داموا في الدنيا .
ثم قال [ الله ]{[13741]} تعالى جل جلاله ، متوعدا لهؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الدنيا قليل ، فليضحكوا فيها ما شاءوا ، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله ، عز وجل ، استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا . وكذا قال أبو رَزِين ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن خُثَيم ، وعون العقيلي{[13742]} وزيد بن أسلم .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش ، حدثنا محمد بن حميد{[13743]} عن ابن المبارك ، عن عمران بن زيد ، حدثنا يزيد الرَّقاشي ، عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس ، ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول ، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون . فلو أن سُفُنًا أُزْجِيَتْ فيها لَجرَت " .
ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، به{[13744]}
وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا حماد الجزري ، عن زيد بن رُفَيْع ، رفعه قال : " إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ، ثم بكوا القيح زمانا " قال : " فتقول لهم الخَزَنَة : يا معشر الأشقياء ، تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا ، هل تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال : فيرفعون{[13745]} أصواتهم : يا أهل الجنة ، يا معشر الآباء والأمهات والأولاد ، خرجنا من القبور عطاشا ، وكنا طول الموقف عطاشا ، ونحن اليوم عطاش ، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ، ثم يجيبهم : { إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] فييأسون من كل خير " {[13746]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فليضحكوا} في الدنيا {قليلا}، يعني بالقليل الاستهزاء، فإن ضحكهم ينقطع، {وليبكوا كثيرا} في الآخرة في النار ندامة، والكثير: الذي لا ينقطع، {جزاء بما كانوا يكسبون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلاً في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولهوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلاً في جهنم مكان ضحكهم القليل في الدنيا "جَزَاءً "يقول: ثوابا منا لهم على معصيتهم بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم وقعودهم في منازلهم خلاف رسول الله، "بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ" يقول: بِما كانوا يجترحون من الذنوب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح و السرور، والبكاء كناية عن الحزن؛ يقول: افرحوا، و سروا قليلا، فستحزنون في الآخرة طويلا كثيرا. وأمكن أن يكون على حقيقة الضحك لأنهم كانوا يضحكون، ويستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؛ يقول: ضحكوا قليلا لأن الدنيا قليلة، تنقطع، وسيبكون كثيرا في الآخرة لأنها لا تنقطع (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بدل الله مَسَرَّتهم بِحَسرةِ، وفَرْحَتَهم بتَرْحَةٍ، وراحتهم بِعَبْرَةٍ، حتى يكثر بكاؤهم في العقبى كما كثر ضحكهم في الدنيا، وذلك جزاءُ مَنْ كَفَرَ بِرَبِّه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
معناه: فسيضحكون قليلاً، ويبكون كثيراً {جَزَاءً} إلاّ أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خيثم وقتادة وابن زيد قوله {فليضحكوا قليلاً} إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله {وليبكوا كثيراً} إِشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويحتمل أن يكون صفة حالهم أي هم لما هم عليه من الخطر مع الله، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم من أجل ذلك كثيراً، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم، لأمته: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً».
ثم قال تعالى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، والدليل عليه قوله بعد ذلك: {جزاء بما كانوا يكسبون} ومعنى الآية أنهم، وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم، فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة، وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير، لأنه عقاب دائم لا ينقطع، والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل، فلهذا المعنى قال: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} قال الزجاج: قوله: {جزاء} مفعول له، والمعنى وليبكوا لهذا الغرض. وقوله: {بما كانوا يكسبون} أي في الدنيا من النفاق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان غاية السرور الضحك، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها، قال تعالى مهدداً لهم مسبباً عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبراً في صورة الأمر إيذاناً بأنه أمر لا بد من وقوعه: {فليضحكوا قليلاً} أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك -يسيراً، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال {وليبكوا كثيراً} أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير {جزاء بما كانوا يكسبون} أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} في هذا الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء وجوه: أحدها: وهو المختار عندنا أن هذا هو الأجدر بهم، بل الواجب عليهم بحسب ما تقتضيه حالهم، وتستوجبه جريمتهم، لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف والخلاف من أجر، وما سيحملون في الآخرة من وزر، وما يلاقون في الدنيا من خزي وضر، فهو خبر في صيغة أمر، نكتته أنه أمر مبني على واجب مقرر. ثانيها: أن هذا ما يكون من أمرهم في الدنيا، فلن يطيب لهم فيها عيش بعد أن هتك الوحي أستارهم، وكشف عوارهم، وأمر الرسول والمؤمنون بمعاملتهم بما يقتضيه نفاقهم، وعدم الاعتداد بما يظهرون من إسلامهم. ثالثها: أن المراد بالضحك القليل ما سيكون منهم في الدنيا بعد الفضيحة، وهو قليل بالنسبة إلى ما كان من ماضيهم مع المؤمنين، وبالنسبة إلى حياتهم في هذه الدنيا، وبالبكاء الكثير ما سيكون منهم في الآخرة، وهو على كل حال إنذار مقابل لما ذكر من فرحهم بالتخلف مثبت أنه فرح عاقبته الحزن والكآبة، والخيبة والندامة، في الدنيا ويوم القيامة. وفي معنى الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) متفق عليه؛ بل رواه الجماعة إلا أبو داود من حديث أنس... وإنما كان الأمر في الآية بمعنى الخبر لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف، وقد قيل في فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإنشاء أنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته في احتمالهما، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب وهو حتم. ويمكن أن يقال: إن الأمر بما ذكر يتضمن الإخبار بسببه، فيكون مؤكداً للخبر ببناء الحكم عليه، ويقابله التعبير عن الأمر بصيغة الخبر للتفاؤل بمضمونه كأنه وقع بالفعل. وقال بعضهم: إن الأمر هنا للتكوين، كقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1]، أي كن قارئاً بعد إذ كنت أمياً باسم الله مبلغاً عنه... والمعنى على هذا: فليكونوا بقدرتنا وتقديرنا قليلي الضحك كثيري البكاء، لأن سبب سرورهم وفرحهم بتخلفهم ونفاقهم قد زال، وأعقبهم الفضيحة والنكال، ويؤيد كونه تكويناً قدريا، لا تكليفاً شرعياً، جعله عقاباً جزائياً لهم على عملهم بقوله: {جزاء بما كانوا يكسبون} فإن جزاء كل عمل من جنسه، وكما يدين المرء يدان. ثم بين تعالى ما يجب من الجزاء الذي يعاملون به في الدنيا قبل الآخرة مما يقتضي انقضاء عهد فرحهم وغبطتهم في دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام الصورية والمعنوية فقال: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم...}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتشير الآية الثّانية إِلى أنّ هؤلاء قد ظنوا بأنّهم قد حققوا نصراً بتخلفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن مسألة الجهاد، وضحكوا لذلك وقهقهوا بملء أفواههم، وهذا هو حال المنافقين في كل عصر وزمن، إلاّ أنّ القرآن حذّرهم من مغبة أعمالهم فقال: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً).
نعم، ليبكوا على مستقبلهم المظلم ليبكوا على العذاب الأليم الذي ينتظرهم ليبكوا على أنّهم أغلقوا كل أبواب العودة بوجوههم، وأخيراً ليبكوا على ما أنفقوا من قوتهم وقدراتهم وعمرهم الثّمين، واشتروا به الخزي والفضيحة وسوء العاقبة وتعاسة الحظ.
وفي نهاية الآية يبيّن الله تعالى أنّ هذه العاقبة التي تنتظرهم هي (جزاء بما كانوا يكسبون).
ممّا قلناه يتّضح أنّ المقصود هو: إنّ هذه الجماعة يجب أن يضحكوا قليلا في هذه الدنيا ويبكوا كثيراً، لأنّهم لو اطلعوا على ما ينتظرهم من العذاب الأليم لبكوا كثيراً ولضحكوا قليلا بالفعل.
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يذكر رأياً آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّهم مهما ضحكوا فإنّ ضحكهم قليل لقصر عمر الدنيا، وسيبكون في الآخرة بكاء بحيث أن كل بكاء الدنيا لا يعادل شيئاً من ذلك البكاء.
غير أن التّفسير الأوّل أنسب وأوفق لظاهر الآية، والتعبيرات المشابهة لها سواء وردت في الأقوال أم الكتابات، خاصّة إذا علمنا أن اللازم من التّفسير الثّاني أن يكون معنى الأمر في الآية هو الإِخبار لا الأمر، وهذا خلاف الظاهر.
ويشهد للمعنى الأوّل الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي ذكره كثير من المفسّرين، حيث قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً». (فتأمل جيداً).
وفي آخر آية -من الآيات محل البحث إِشارة إِلى طريقة أُخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم حينما يفعلون ما يخالف القانون الإِسلامي، فإنّهم يُظهرون أعمالا يحاولون بها جبران ما صدر منهم، ومحاولة تبرئة ساحتهم ممّا يستحقون من العقوبة، وبهذه الأعمال المناقضة لأعمالهم المخالفة للقانون فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقة، أو يسعون إِلى ذلك.