{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أى : قال أصحاب اليمين للمجرمين : ما الذى أدخلكم فى سقر ، وجعلكم وقودا لنارها وسعيرها ؟ والسؤال إنما هو على سبيل التوبيخ والتحسير لهؤلاء المجرمين .
وعبر - سبحانه - بقوله : { مَا سَلَكَكُمْ . . . } للإِشعار بأن الزج بهم فى سقر ، كان بعنف وقهر ، لأن السلك معناه : إدخال شئ بصعوبة وقسر ، ومنه قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين . لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين }
بينما المؤمنون الذين كانوا لا يحفلونهم في الدنيا ، ولا يبالونهم ، في موقف الكرامة والاستعلاء ، يسألونهم سؤال صاحب الشأن المفوض في الموقف : ( ما سلككم في سقر ? ) . . ويلمس قلوب المؤمنين الذين كانوا يلاقون من المجرمين ما يلاقون في الأرض ، وهم يجدون أنفسهم اليوم في هذا المقام الكريم وأعداءهم المستكبرين في ذلك المقام المهين . . وقوة المشهد تلقي في نفوس الفريقين أنه قائم اللحظة وأنهم فيه قائمون . . وتطوي صفحة الحياة الدنيا بما فيها كأنه ماض انتهى وولى !
وقوله : فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَن المُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ يقول : أصحاب اليمين في بساتين يتساءلون عن المجرمين الذين سُلكوا في سقر ، أيّ شيء سلككم في سقر ؟ قالُوا لَمْ نَك مِنَ المُصَلّينَ يقول : قال المجرمون لهم : لم نك في الدنيا من المصلين لله وَلمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ بخلاً بما خوّلهم الله ، ومنعا له من حقه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال المؤمنون لمن بقي في النار: {ما سلككم في سقر} يعني ما جعلكم في سقر؟ يعني ما حبسكم في النار؟
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: أصحاب اليمين في بساتين يتساءلون عن المجرمين الذين سُلكوا في سقر، أيّ شيء سلككم في سقر؟
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فظاهر هذا يؤدّي إلى أنّ التساؤل كان من أهل الجنة بعضهم بعضا. وإذا صدر السؤال عن بعضهم بعضا فحقه أن يقال: {ما سلكهم في سقر} لأن أهل سقر لم يسألوا، بل سأل عنهم غيرهم. ألا ترى أنه قال: {عن المجرمين} ولم يقل: يتساءل المجرمون؟ فثبت أن الظاهر يقتضي أن يكون المخاطبون غير المجرمين.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالمجرم: هو القاطع بالخروج عن أمر الله ونهيه إلى ارتكاب الكبائر من القبيح، والمجرم: القاطع. والسلوك: الدخول.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف طابق قوله {مَا سَلَكَكُمْ} وهو سؤال للمجرمين: قوله: {يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين} وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ قلت: ما سلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم؛ لأنّ المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم {ما سلككم فِي؟ سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك قلت: توبيخا لهم وتحسيراً، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين... فإن قلت: أيريدون أنّ كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان كل أحد مشغولاً بنفسه، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره، وكان أولياء الله إذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه، فتساءلوا عن حالهم، فقال بعضهم لبعض: لا علم لنا، فكشف الله لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم، زيادة في نعيمهم وثوابهم، كما تقدم في الصافات عند قوله
{قال قائل منهم إني كان لي قرين} [الصافات: 51] وكان بساط الكلام دالاً على هذا كله، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخاً وتعنيفاً وشماتة وتقريعاً تصديقاً لقوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} [المطففين: 34] الآية، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين: {ما} هي محتملة للتوبيخ والتعجيب {سلككم} أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب {في سقر} فكان هذا الخطاب مفهماً لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنهم شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا -مع كونهم من أهل السعادة- إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهم غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسروراً بما نجاهم الله من مثل حالهم ويكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بينما المؤمنون الذين كانوا لا يحفلونهم في الدنيا، ولا يبالونهم، في موقف الكرامة والاستعلاء، يسألونهم سؤال صاحب الشأن المفوض في الموقف: (ما سلككم في سقر؟).. ويلمس قلوب المؤمنين الذين كانوا يلاقون من المجرمين ما يلاقون في الأرض، وهم يجدون أنفسهم اليوم في هذا المقام الكريم وأعداءهم المستكبرين في ذلك المقام المهين.. وقوة المشهد تلقي في نفوس الفريقين أنه قائم اللحظة وأنهم فيه قائمون.. وتطوي صفحة الحياة الدنيا بما فيها كأنه ماض انتهى وولى!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتقدير: يتساءلون المجرمين عنهم، أي عن سبب حصولهم في سقر، ويدل عليه بيان جملة {يتساءلون} بجملة {ما سلككم في سقر}، فإن {ما سلككم} في بيان للتساؤل.
وأصل معنى سلكه أدخله بين أجزاء شيء حقيقة ومنه جاء سِلْك العِقد، واستعير هنا للزج بهم، وتقدم في سورة الحجر (12) قوله تعالى: {كذلك نَسْلُكْهُ في قلوب المجرمين} وفي قوله: {نُسْلِكْه عذاباً صعداً} في سورة الجن (17). والمعنى: ما زجَّ بكم في سقر.
فإن كان السؤال على حقيقته والاستفهام مستعملاً في أصل معناه كان الباعث على السؤال:
إِمَّا نسيان الذي كانوا عَلِموه في الدنيا من أسباب الثواب والعقاب فيبقى عموم {يتساءلون} الراجع إلى أصحاب اليمين وعموم المجرمين على ظاهره، فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنّة على ما أخذوا به من أسباب نجاتهم ممّا أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك.
وإما أن يكون سؤالاً موجهاً من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يَظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يضيف مبيّناً جانباً من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم:
(في جنّات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر).
يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها:
الاُولى: (قالوا لم نكُ من المصلين).
لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة باللّه تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط اللّه المستقيم.
والأُخرى: (ولم نك نطعم المسكين).
وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموماً بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.
وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سبباً في دخول النّار، وهذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.
والثّالثة: (وكنّا نخوض مع الخائضين).
كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل، نقوم بالترويج لها، وكنّا معهم أين ما كانوا، وكيف ما كانوا، وكنّا نصدق أقوالهم، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.
«نخوض»: وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور، والقرآن غالباً ما يستعمل هذه اللفظة في الاشتغال بالباطل والغور فيه.
(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات اللّه للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الوقح، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.